ما نراه، هو في الشكل، ثورة شعبية كاملة الاوصاف على طريقة ما حدث ويحدث في تونس والسودان والجزائر. وما نتخوف منه، في الأساس، هو ما تدار به الألعاب السياسية في لبنان: توظيف الثورة وما يرفعه الثوار من مطالب اقتصادية وسياسية في خدمة "أجندات" سياسية لأطراف داخلية وخارجية. وذلك ان مهمة السلطة في نظر اهلها هنا تختلف عن مهمتها في أي نظام ديموقراطي: ضمان الكراسي للأشخاص، لا ضمان الخدمة للمواطنين. وسياساتها على مدى عقود هي صانعة الازمات المالية والاقتصادية. وهي التي أفقرت الناس وحمّلت البلد أثقال دين عام بأرقام فلكية من دون استثمارات وبنية تحتية كافية، ليكون ذلك مصدر الثراء للنافذين.
والشرارة التي اشعلت التحركات الغاضبة ليست فكرة البحث عن ضرائب بل نوعية الضرائب. فلا اصلاحات من دون ضرائب، سواء كانت الاصلاحات مفروضة علينا من اجل استثمارات "سيدر" أو كانت من حاجات التطور وأقله من ضرورات وقف الانهيار في البلد. لكن الفارق كبير بين اصلاح السياسة الضريبية التي ساهمت في إفقار الكثرة وإثراء القلة، وبين فرض ضرائب عشوائية ضمن السياسة الضريبية نفسها، للهرب من الاصلاحات الحقيقية والضرائب العادلة التي تقطع طريق السطو على المال العام أمام الذين يعتبرون البلد "غنيمة" والسطو من "حقوقهم".
والفارق اكبر بين النزول الى الشارع للمطالبة بالتغيير نحو الأفضل من أجل إدارة سياسية ديموقراطية وعصرية وبين توظيف الشارع من اجل حكومة تعتبر الاصلاحات المطلوبة بموجب "سيدر" نوعاً من "المؤامرة"، وتأخذ لبنان الى مواجهة مع العرب والغرب والى الحصار المطلوب على سوريا وايران.
مفهوم ان جهة ما يجب ان تدفع ثمن الاستعصاء عن تسوية الازمات. والحكومة هي الضلع الضعيف في "مثلث" السلطة منذ التسوية التي جاءت بالوضع الحالي. ولا أسف على حكومة ليست حكومة بل مجموعة "مراكز قوى" تدير المحاصصة، ولا تختلف الا على نسب الحصص.
لكن الخروج من المأزق يحتاج الى طريق أوسع وتغيير أعمق. قيل للفيلسوف الصيني مينشيوس: "المملكة تغرق، فلماذا لا تنقذها؟" فقال: "دعوها تغرق. فالمملكة الغارقة يجب انقاذها بالمبادئ، لا كما تنقذ اليد انساناً غريقاً". ونحن ضيّعنا المبادئ التي قام عليها لبنان كمغامرة رائعة في هذا الشرق المحكوم بالعصبيات. ولن تنقذنا عصبية الذين يتصورون انهم يملكون ما سخر منه رينولد نايبور، وهو "احلام ادارة التاريخ".
