كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
من أكثر المصطلحات استخداماً لكل باحث عن مخارج أو حلول من خارج المألوف، او حتى لكل من يريد التمايز في المواقف السياسية، بعدما أصبحت المدارس الكلاسيكية مملة وتفتقد الجاذبية.
التفكير من خارج «العلبة» ضرورة دائمة وحيوية، بحثاً عن حلول لقضايا وأزمات، فشلت كل محاولات معالجتها بالطرق الكلاسيكية. والبحث عن هذه الحلول يجب ان يترافق مع ما هو أهم، والمتعلِّق بالقدرة على المبادرة وتنفيذ هذه الأفكار، وإلّا تبقى مجرد تمنيات وأحلام. ولكن هذا لا ينفي ضرورة البحث الدائم عن أفكار خارجة عن السياق المعهود، حتى لو كان تنفيذها متعذراً.
فهل كان من خيار آخر مثلاً غير التسلُّح لمواجهة الثورة الفلسطينية عشية الحرب اللبنانية؟ بالتأكيد كلا. لأنّ هدف هذه الثورة كان وضع يدها على لبنان بحجة استعادة أرضها من الإسرائيليين، أي الحجة نفسها التي يستخدمها «حزب الله» اليوم. والفارق الوحيد بين الأمس واليوم اختلاف اللاعبين وأيديولوجياتهم، ولكن النتيجة نفسها مع الثورة الفلسطينية والثورة الإيرانية، فلا سيادة ولا دولة ولا استقرار.
وطالما أن لا اختلاف بين الثورتين، فلماذا ووجهت الأولى بالسلاح والثانية بالسياسة؟ والجواب بكل بساطة، لأنّ المواجهة المسلّحة بحاجة إلى رعاية واحتضان، والدولة اللبنانية غضّت النظر في مطلع سبعينات القرن الماضي عن تسلُّح «الكتائب» و»الأحرار» وغيرهما من التنظيمات المسيحية، بسبب عجزها عن التصدّي للثورة الفلسطينية، فسهلّت مواجهتها عن طريق هذه الأحزاب، فيما الدولة اليوم ممسوكة من قِبل «حزب الله» خلافاً لواقع دولة العام 1975، وستقف بالمرصاد لكل من يحاول امتلاك السلاح على غرار امتلاكه من قِبل الحزب، وإلّا كيف يستقيم شعار «لا يُواجه السلاح سوى بالسلاح» في مرحلة معينة، ومن ثمّ يبطل معنى هذا الشعار ليتحوّل إلى مواجهة العنف بمزيد من التمسّك بالسلام؟
ما تقدّم أعلاه هو لضرورات النقاش ليس إلّا. واستكمالاً لهذا النقاش، هل كان بالإمكان مثلاً أيضاً مواجهة الاحتلال السوري بين عامي 1990 و 2005 بالسلاح؟ والجواب بالتأكيد كلا، لأنّ النظام السوري أمسك بكل مفاصل السلطة والحياة السياسية في لبنان، إلى درجة انّ المعارضة الصوتية كانت ممنوعة، فكيف بالحري المواجهة المسلّحة التي تتطلّب مساحة جغرافية وقوة منظّمة وظروفاً مؤاتية؟ الأمر الذي لم يكن متوافراً، بدليل انّه عندما توافرت ظروف مواجهة الجيش السوري عسكرياً حصلت المواجهة، وعندما انتفت الظروف انعدمت هذه المواجهة.
وطالما الشيء بالشيء يُذكر، فإنّ الدعوة إلى إقامة منطقة حرّة في لبنان برعاية دولية لا تندرج في سياق التفكير خارج المألوف، لأنّ هذه الفكرة غير قابلة للتطبيق لسببين أساسيين: الأول كون المنطقة الحرّة تُنشأ بإرادة لبنانية ذاتية، ولا قدرة لبنانية على إنشاء منطقة من هذا القبيل، والمنطقة الحرة في الحرب أُنشئت بقوة ذاتية واستحضرت الخطوط الحمر الدولية؛ الثاني كون المجتمع الدولي منشغل بقضاياه ومشاكله، وقبل ان يُنشئ منطقة حرّة في لبنان فلماذا لا يطبِّق القرارات الدولية وفي طليعتها 1559؟ ولماذا لا يُنهي الحرب السورية؟ ولماذا لم يمنع موسكو من اجتياح أوكرانيا؟ وهذا لا يعني طبعاً عدم طرح فكرة المنطقة الحرّة، فمن حق كل شخص او مجموعة طرح الأفكار التي تريدها، ولكن التمييز واجب بين الأفكار القابلة للتطبيق بإرادة ذاتية، والأفكار التي يتطلب تطبيقها معادلات خارجية لا تأثير لبنانياً عليها.
وفي السياق نفسه، ومن أجل الدخول في صلب الموضوع، هل نزع سلاح «حزب الله» ممكناً؟ والجواب غير ممكن لبنانياً وبحاجة لمعادلات خارجية. ما يعني انّ المطلوب مواصلة التكتيك نفسه: صمود في الداخل بانتظار تحوّلات في الخارج تؤدي إلى التقاء موضوعي كما حصل في العام 2005. ولكن ماذا لو لم يحصل هذا الالتقاء؟ وكيف يمكن التخفيف من تأثير هذا السلاح بانتظار تحوّلات خارجية من بينها مثلاً أن تطلب إيران من الحزب تسليم سلاحه نتيجة تغيير طهران لدورها في المنطقة؟ وهل يمكن تحقيق أي خطوة تساهم في صمود اللبنانيين وتعزِّز مواجهتهم الكلاسيكية؟ وهل من حاجة للتذكير بأنّ الحرب اللبنانية انتهت في 15 عاماً، وانّ إمساك النظام السوري بالنظام اللبناني انتهى بعد 15 عاماً، وإنّ إشكالية سلاح «حزب الله» التي تغيّب الدولة مستمرة منذ أكثر من 17 عاماً؟ ولماذا لا يُصار إلى المزاوجة بين المواجهة الكلاسيكية المعتمدة منذ العام 2005، وبين تحقيق كل ما يمكن تحقيقه من خطوات، تخفِّف من تأثير سلاح الحزب على كل البلد وجميع اللبنانيين؟
فالأجوبة عن هذه التساؤلات تندرج في سياق التفكير «out of the box»، ومن الأفكار التي يمكن تحقيقها على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً، وضع اللامركزية الموسّعة إلى أبعد الحدود هدفاً أوّل، والتقاطع مع أي جهة سياسية على استعداد لإقرار هذا البند والسير به عملياً على أرض الواقع، خصوصاً انّ استفحال الأزمة المالية لم يعد يسمح باستمرار الاتكاء على الدولة المركزية، بل الحاجة أصبحت ملحّة لإقرار اللامركزية التي تشكّل عاملاً مساعداً في التخفيف من حدّة الأزمة وتطويقها مناطقياً، حيث تصبح كل منطقة مسؤولة ومعنية في توفير مستلزماتها الحياتية، خصوصاً انّ هناك بعض المناطق تعتاش على حساب غيرها من دون وجه حقّ، فيما كل منطقة يجب ان تكون مسؤولة عن ماليتها وتأمين فرص العمل اللازمة.
ومن غير المفهوم مبدئياً، لماذا هذا البند لم يُقرّ بعد منذ العام 1990، فيما يجب تحويله إلى أولوية سياسية وتأمين الأكثرية النيابية القادرة على تبنّيه وإقراره، وممارسة أقصى الضغوط اللازمة لترجمته على أرض الواقع؟
ثانياً، من غير المفهوم أيضاً ما هي طبيعة العوائق التي تحول دون تشريع مطار في حامات وآخر في القليعات؟ ومن غير المفهوم لماذا لا تتكتّل القوى السياسية وتمارس الضغوط المطلوبة لتشريعهما، خصوصاً انّهما يفسحان في المجال أمام آلاف الوظائف الجديدة، ويساهمان في تنمية المناطق المحيطة بهما؟ وهل يُعقل الإبقاء على مطار واحد بقوة الأمر الواقع لاعتبارات أمنية ونشغيلية؟ وإلى متى السكوت عن هذا الواقع؟ وجلّ ما يتطلبه هذا البند ان يقرُّه مجلس الوزراء لا أكثر ولا أقل، وهو يشكّل مطلباً وحاجة إنمائية بامتياز.
ثالثاً، تنشيط المرافئ المناطقية وتفعيلها وتوسيعها من أجل تحويلها إلى مرافئ بمعايير دولية، لأنّه إذا كان يتعذّر رفع يدّ الأمر الواقع عن مرفأ بيروت، فلا يجب التأخير بتطوير المرافئ المناطقية، ويجب إزالة كل العوائق التي تحول دون تحقيق هذا الهدف.
رابعاً، هل يُعقل انّ الحرب اللبنانية انتهت منذ أكثر من ثلاثة عقود وأزمة الكهرباء لم تُحلّ بعد وتشكّل النزيف الأكبر للموازنة؟ ولماذا لا يبدأ البحث عن حلول مناطقية لهذه الأزمة، لأنّ ما لم يُحلّ على مدى ثلاثين عاماً يعني انّ المستفيد من خراب هذا القطاع سيُبقيه على ما هو عليه؟ والكهرباء تشكّل عصب الحياة والحركة، ولم يعد من الجائز انتظار وزارة الطاقة والحكومة لحلّ هذه المشكلة المتمادية، إنما حان وقت المبادرة لحلول لا مركزية.
خامساً، ربط المناطق وأهلها ببرامج توأمة مع عائلات ورجال أعمال موجودين حول العالم من المنطقة نفسها. ومعلوم انّ عندما تكون المساعدة محصورة ضمن نطاق جغرافي وهادفة ضمن سياق مشروع واضح المعالم، تولِّد الحماس وتشجِّع أكثر اللبنانيين على مساعدة أهلهم وتنمية مناطقهم، والدليل الحماس الاغترابي على مزيد من التسجيل للتصويت في لبنان.
وما تقدّم يشكّل مجرّد عينة من أفكار كثيرة في حال اعتُمدت، تؤدي إلى ترييح الواقع اللبناني. ومن الخطيئة إبقاء كل الوضع اللبناني معلقاً بانتظار حلّ إشكالية سلاح «حزب الله». وماذا لو تأخّر هذا الحلّ عشر سنوات إضافية، فمن يضمن ألّا يكون الشعب اللبناني قد هاجر وتمّ استبداله بشعب آخر؟
وهذا لا يعني تخفيف الضغط على سلاح الحزب وضرورة تسليمه للدولة، إنما العمل بشكل متوازٍ على حلول قابلة للتحقُّق، في سياق سياسة الصمود والحدّ من تمدُّد الشيعية السياسية وخطرها على هوية لبنان وتعدّديته، الأمر الذي يتطلّب من القوى السياسية التي لديها الأهداف نفسها، ان تميِّز بين خلافها السياسي، وبين ضرورة اتفاقها حول كل ما يتصلّ بالقضايا الوجودية.