كتب جوني منير في “الجمهورية”:
كان لافتاً عدم تضمين الموقف الاميركي الرسمي إشارة الى النتائج التي أفضت اليها الانتخابات النيابية اللبنانية، لجهة الإشادة بالتقدّم الذي احرزته الوجوه والقوى المعارضة لـ»حزب الله» والمجموعة المتحالفة معه. وبخلاف ما توقّعه البعض، فإنّ الموقف الاميركي الرسمي اقتصر على موضوع إتمام العملية الانتخابية في موعدها.
وحتى الذين حاولوا انتزاع موقف واضح من مسؤولي وزارة الخارجية حول التوازنات الجديدة للمجلس النيابي بقيت «سلّتهم فاضية». وهو ما يعني انّ ثمة تفسيراً لهذا الموقف.
واجتهد البعض في تفسيره، معتبراً أنّ واشنطن التي واكبت التطورات بعد 17 تشرين، سجّلت كثيراً من الملاحظات حيال السلوك الذي أنتجته قوى واطراف معارضة، والتي غلب عليها في كثير من الأحيان تبدية المصالح الشخصية على الرؤيا العامة. وهو ما يعني انّ من المبكر جداً الرهان على بعض هؤلاء.
ومع الانتهاء من الامتحان الاول للمجلس النيابي الجديد، بدا أنّ التخوّف الذي عبّر عنه البعض كان في مكانه. وأظهر هذا الامتحان وجود كتلة صلبة عمادها «حزب الله»، وهي قادرة على الإمساك وتنظيم المجموعة المتحالفة معها، في مقابل «برج بابل» للكتل الاخرى، والتي أظهرت تفتتها وافتقارها الى القدرة على تجاوز حساباتها الشخصية ومصالحها الذاتية. وبالتالي، فإنّ هذه القوى والوجوه الجديدة منها او القديمة، لا يزال سلوكها السياسي يفتقد الى النضج السياسي، عوضاً عن الاستعراض الإعلامي الذي تقدّمه.
وعلى الأغلب، فإنّ هذا السلوك سينسحب ايضاً على استحقاق تأليف حكومة جديدة. غالب الظن انّ لا خيار آخر عن خيار إعادة تسمية نجيب ميقاتي. الواضح انّ رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل يسعى الى وصول شخصية أخرى «يمون» عليها، وتعمل على إنجاز تشكيل حكومة تسمح له بإقصاء من يحملون حظوظاً مرتفعة لرئاسة الجمهورية، وايضاً لإجراء تعيينات واسعة، تسمح له بتوسيع دائرة نفوذه داخل إدارة الدولة لمرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. وكذلك السعي لأن يعود هو إلى الحكومة، بعد غربة تجاوزت السنتين ونصف السنة، وهو ما سيجعله في موقع تأثير أكبر، مع دخول البلاد في الفراغ الرئاسي المتوقع.
في الواقع، لا تبدو الامور بهذه السهولة. صحيح انّ الفرنسيين، والذين يتولون رعاية الملف اللبناني، أبلغوا الى الذين تواصلوا معهم أنّهم مستعدون للمساعدة في تأمين ولادة الحكومة، ولكن ليس أي حكومة، وهو ما يعطي الانطباع اولاً بأن لا بديل جّدياً عن ميقاتي، وأنّ «حزب الله» ليس في وارد المغامرة والتصادم مع الفرنسيين وسط الظروف الاقتصادية والمالية في لبنان.
وثانياً، إنّ الظروف لا تسمح بعد بالعودة إلى حكومة سياسيين، خصوصاً لأشخاص لديهم طموحات رئاسية «جامحة»، ما سيؤدي لاحقاً الى زيادة التعقيدات التي ستواكب بدء مرحلة الفراغ الرئاسي، وقد يتولّى «حزب الله» في هذا الإطار مهمّة تأمين مطالب «حكومية» كبديل عن المشاركة في الحكومة، لا تصل إلى حدود إقصاء موظفين رسميين كبار بخلفيات سياسية، وإلّا فإنّ حكومة تصريف الاعمال ستستمر في حكم الأمر الواقع، طالما انّ هنالك معارضة لإعادة إحيائها وإنعاشها بتجديد الثقة لها.
وطالما انّه تمّ «الإطباق» على المواقع في المجلس النيابي لمصلحة الثنائي الشيعي وحلفائه للسنوات الاربع المقبلة، فهذا يستوجب ان تتشكّل الحكومة وفق حسابات تراعي التوازنات، او بأفضل الحالات إبقائها وفق الصورة الحالية، أي تشكيلة «سياسية لايت». والأهم معركة رئاسة الجمهورية والتي يجب ان تحاكي حياداً داخلياً، وفي الوقت نفسه من المفترض ان يؤمّن الرئيس المقبل للجمهورية قدرة على تأمين غطاء قوي للجيش اللبناني الذي سيتولّى الإمساك بالأرض، وعلى التواصل مع الدول القادرة على تأمين انعاشه اقتصادياً، والتي تحمل شروطاً ومطالب. وكذلك ان يشكّل وصوله تكاملاً مع المعادلة التي يجري رسمها في المنطقة، لا نقيضاً لها او جسماً غريباً عنها، على ان يسبق ذلك بطبيعة الحال المؤتمر الذي سينتج من المبادرة الفرنسية، ولكن عندما تحين الظروف الاقليمية.
فقدر لبنان الصعب لا بل المأسوي انّه ملزم بانتظار جلاء الصورة الاقليمية وهو قابع في جهنم. فالأولوية للورشة الهائلة في المنطقة، والتي تعطي الأولوية القصوى لاستكمال مسار التطبيع مع اسرائيل وتركيز توازنات جديدة وايضاً تعقيدات الملف النووي مع ايران. وجاء تعيين بربارة ليف مساعدة لوزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط بمثابة تأكيد ذلك. فالمسؤولة الجديدة كانت قد عملت كسفيرة لبلادها في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي تُعتبر خبيرة في الشأنين الخليجي والايراني. وهو ما يعكس الأولوية المطلقة للسياسة الخارجية الاميركية في المنطقة في المرحلة الحالية.
والمشكلة هنا في التعقيدات المفاجئة التي تتوالى، ويشتهر الشرق الاوسط بها. فحتى الزيارة التي يخطّط لها البيت الابيض للرئيس الاميركي الى المنطقة في الثلث الاخير من الشهر الجاري، لترسيخ معادلة جديدة، يبدو انّها مهدّدة بعدم حصولها، خصوصاً بسبب الوضع المتأرجح الذي تعيشه الحكومة الاسرائيلية. فالرئيس الاميركي، والذي يعاني حزبه من وضع شعبي غير مريح قبل اشهر معدودة من الانتخابات النصفية، قد لا يخاطر بزيارة اسرائيل، وان تسقط الحكومة الاسرائيلية بعد مغادرته المنطقة، فهذا سيشكّل صفعة قوية له ولحزبه، وسيجهض كل النتائج المرجوة من زيارته. كذلك فإنّ القرار السعودي بالتطبيع مع اسرائيل لا يزال غير مؤمّن في ظل مشكلتين أساسيتين: الاولى، انتماء الملك سلمان الى الجيل الذي تربّى على العداء لاسرائيل. والثانية، طلب الحصول على الضمانات الأمنية الصلبة من واشنطن حيال حماية السعودية من أي اعتداء او هجوم ايراني مستقبلاً. أضف الى ذلك، إعادة الجزيرتين من مصر الى السعودية، ولكن مع ضمان الممرات البحرية مثل مضيق تيران امام حركة ملاحة مرفأ ايلات.
وعلى الرغم من وجود مستشار الأمن القومي الاسرائيلي إيال هولانا في واشنطن، لمتابعة ملف زيارة بايدن الى المنطقة، الّا أنّه لم يُحسم في المسألة نهائياً حتى الآن. وهو ما يعني أنّ التعقيدات الاقليمية الحاصلة تفرض بعض الروية في لبنان، ودوزنة الحسابات، بما يتلاءم مع الواقع لا الرغبات.