جاء في “اللواء”:
دع عنك تقارير التجاوزات والمماحكات، وما تضعه لجان المراقبة المحلية والدولية والأوروبية للعمليات الانتخابية التي جرت في كل لبنان، من تقارير تكشف عن خطأ هنا، أو تقصير هناك، وبصرف النظر عن الإشكالات الأمنية التي حدثت في غير منطقة من لبنان، ولا سيما الشمال، والانقطاع المستمر للكهرباء عن عدد من المراكز في بيروت وغيرها، مقصوداً كان أو غير مقصود، فإنه يسجّل للطبقة السياسية، التي تقبض على السلطة غير عابئة بما جنت يداها، في ما خصَّ الانهيارات المالية والخدمية والاقتصادية والمعيشية إنما تمكنت من إعادة تجديد الثقة بها، على الرغم من المثالب والنكبات التي ألحقتها بالبلد، وعلى «عينك يا تاجر»!
مع طلائع فرز النتائج، وبصرف النظر عن النسب والحواصل الانتخابية، فإن كيانات الطبقة الحاكمة، عبر تياراتها الطائفية، ومكوناتها الحزبية أكدت أنها قادرة على تجديد البيعة لها، عبر العملية التي تسمى «ديمقراطية»، ولو على الطريقة اللبنانية، من دون أخذ السماح من الديمقراطية اليونانية، وتيار السفسطائيين، الذي كانت لديه القدرة المتجددة على كسب أصوات الأحرار الذين يسمح لهم بالاقتراع، بعد حملة تهويش، ومغالطات، وبيانات، وقدرات فائقة على الإقناع.
لا حاجة بعد لفحص ضحالة العقل الديمقراطي اللبناني، الذي يفتخر بعراقته، قبل الاستقلال، وحتى قبل الانتداب، في ممارسة الاقتراع لملء المجالس المحلية أو البلدية في إدارة شؤون المواطنين أو الرعايا، سواء في ولايات السلطنة، أو امارات جبل لبنان ونظام المتصرفية، وصولاً إلى لبنان الكبير، بدءاً من دستور 1926.
ومع ان الوقت، لفحص مرحلة ما بعد الحدث الانتخابي، وليس لتقييم قانون الانتخاب النسبي، الممسوخ على طريقة إرضاء «تشرذمات الطوائف» التي دخلت إلى المجلس النيابي، في محاولة لاضفاء طابع توافقي على «الديمقراطية» بحيث تكتسب أيضاً صفة اللبنانية.
يتبيَّن من التجربة في العام 2018، ان التنافس على الحواصل، اوصل تكتلات تتمتع بالحد الأدنى من «التجمعات البشرية».. فشكل مجلساً للنواب، عصفت به بعد عام ونيّف أزمة ثقة عارمة، عبَّرت عنها حركة الشارع التي اندلعت في 17 ت1 (2019)، تحت شعارات كبيرة، عبر صيحات المتجمعين في الشوارع والساحات، احتجاجاً على زيادة بضع سنتات من الدولار كرسم على «الواتساب»، في آخر حكومة للرئيس سعد الحريري، لتفتح صفحة الانهيارات من حجز الودائع، إلى إنهيار سعر الصرف، إلى تهريب الأموال.. وسائر الخطوات البالغة الخطورة التي ما يزال يُعاني المواطن اللبناني المسحوق من ويلاتها ونكباتها..
ومن هذه الزاوية بالذات، لا بدَّ من رؤية المجلس الجديد، الذي يتشكل في انتخابات 15 أيّار 2022، ولو على طريقة المصادرة على المطلوب.
1 – لا بدَّ من تصنيف البلد، الذي كشف المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي ديفيد شنكر عن دوره في تخريب نظامه المصرفي، وتسريع عمليات الانهيار، وخفض التصنيف، واضعاف مكانته المالية الدولية، انه من البلدان الرخوة، أو الضعيفة، التابع في اقتصاده وانتاجه وأمواله لنظام إقليمي متهالك عربياً، مع بروز قوى نافذة متطاحنة في الإقليم من إسرائيل إلى تركيا وإيران..
2 – هذا التصنيف، ان البلد رخو من النواحي السياسية والاقتصادية لا يعني ان الممارسة الديمقراطية، على مرأى من وسائل الإعلام، لا سيما شاشات التلفزة، لا يمكن ان تجري، وتحدث توليداً جديداً لنواب جدُد، بعضهم من المجلس الذي ينتهي مع إعلان تشكيل المجلس الجديد، وبعضهم بدَّلته، حسابات الكتل النافذة، فخرج بقرار واضح من اللوائح المشكلة، والتي تحاشت التغيير والتبديل، غير عابئة بأية حسابات، ما دام المشهد قابل للتكرر إلى أكثر من ألف عام قادم، وليس مائة عام ونيّف، وهو عمر تشكيل لبنان الكبير.
3 – قد تكون الانتخابات التي جرت أمس، مسحت على نحو خطير آثام الطبقة السياسية، وموبقاتها، سواء لجهة النهب والسلب، والتلاعب بمصالح البلاد والعباد.. فمع الانتخابات تطوى صفحة، وتفتح صفحة جديدة.
4 – رفعت حركة الاحتجاج الشعبي بدءاً من نهاية العام 2019 شعارات «كلن يعني كلن»، ودعت لحل المجلس، والانتخاب لمجلس جديد.. جاء الوقت، وذهب المجلس، ليتشكل مجلس جديد، من الخطأ استباقاً تكوينه، وقراءة ما ترتب على اللعبة الديمقراطية، ونتائجها، على أرض الواقع..
فماذا سيحدث لدى «الجمهور التغييري» عندما يشاهد «كلن يعني كلن» يحملون على سياراتهم «النمر الزرقاء» إياها، وإن تبدّلت بعض الأوجه، ولكن ليس بقوة صناديق الاقتراع وصوت الناخب المواطن أو المواطنة الذي «خربت بيته» إجراءات الطبقة القابضة بالقوة الشعبية على المجلس الجديد..
5 – من كان يشاهد شاشات التلفزة، من دون استثناء، يرى أين هي المنافسة، الطبقة السياسية القابضة على السلطة، هي هي على الشاشات من الشمال إلى الجنوب، فبيروت، التي تخسر للمرة الأولى، وهج الانتخاب في غياب تيّار «المستقبل» وقيادته وترشيحاته، مما يضفي على المشهد «مأساوية» من النوع «النوستالجي»، إذ يفقد المشهد بريقه، على الرغم من ان الانتخابات جرت، بحدّ أدنى من المشاركة، وبحدّ أقصى من الانضباط والابتعاد عن الشعب.
6 – بدت المنافسة ليست بين الطبقة الحاكمة، المتهمة بالفساد و«التغييرين» سواء من المجتمع المدني أو القوى الصاعدة من الشخصيات الراغبة في دخول المعترك، تحت شعارات التغيير، أو مصالح المودعين، أو أهالي الطلاب الذين يدرسون في الخارج، أو الموظفين والمتقاعدين من مدنيين وعسكريين الذين تحبس المصارف اموالهم بذرائع وحجج مختلفة..
بدت المنافسة داخل الطوائف نفسها، بين المؤيدين لتأبيد سيطرة «الفساد على البلاد والعباد» والرافضين على طريقة «دوامة الصمت» يرفضون ضميرياً، ولا يتحركون بأي اتجاه، فيلزمون المنازل أو الشوارع أو جلسات السمر والتسلية، على الرغم من ان الاقفال رافق عدداً من المطاعم ومحلات الترفية والتسلية.
7 – من العلاقات الفارقة، في نظام الانتخابات اللبناني، هو قدرة الطوائف، على حماية مصالحها، عبر ممثليها أو الشخصيات المنتمية إليها. فالنظام الطائفي اللبناني، اقوى من كل محاولات الخرق، أو نقل الانتماء إلى المصالح الحيوية للناس، من طبابة، وتعليم، وفرص عمل، وماء وكهرباء..
ربما كان النظام الدولي، في شقه السياسي والنقدي هو الأقدر على ترجيح خيار اجراء الانتخابات، وهذا ما حصل. ولكن النتائج التي «تحتاج إلى قراءة متأنية وقوية، لمرحلة ما بعد الانتخابات، وكيفية إعادة بناء السلطات الجديدة، مع الإشارة إلى ان لا رهان جدياً على تغييرات، في بنى كثيرة، كان يراهن عليها اللبنانيون.
مع طلائع هذا الصباح، تبرد الرؤوس الحامية، وينوص سراج الرهانات الخاطئة، والنفخ في الأبواق الصاخبة، وتعود الأمور إلى احجامها، فيما يعود المواطن إلى مواجهة قدره، بعد تبخر بضع دولارات، وضعت، ربما في جيبه، قبل أو بعد ان يكون وضع الورقة التي تخدم اهدافاً لا تتصل ابداً إلا بمصالح اللاعبين والمخادعين لجموع النّاس المساكين!