ابراهيم الأمين – الأخبار
كل المؤشرات قاتمة. ليس في السلطة الآن من يجزم بأن تصورات القوى الداخلية قادرة على إنتاج صيغة من النوع القابل للصرف خارجياً. لا أحد يعرف لماذا تصرّ السعودية على ترك الأمور على ما هي عليه لجهة جعل سعد الحريري من دون موقف، علماً بأن الأخير قال مراراً وتكراراً إنه لا يستطيع أن يقدّم أكثر مما قدم حتى الآن. وإنه يستطيع، فقط، القول بأن معادلة تأليف الحكومة الأولى بعد انتخاب الرئيس ميشال عون تغيّرت. غير أن رئيس الحكومة المكلف لا يستطيع تشكيل حكومة تخالف نتائج الانتخابات النيابية.
الأزمة هنا؟
لنعد قليلاً الى الوراء. عندما تمت التسوية الرئاسية، لم تكن قاعدتها وصول العماد عون إلى بعبدا فقط، بل تثبيت سعد الحريري في رئاسة الحكومة، وهو ما حصل. كان من المنطقي أن تقوم تحالفات جديدة بعد انتشار فريق عون داخل السلطة. لكن استياء السعودية من علاقة الحريري بعون، لم تعد منطقية بعد 4 تشرين الثاني الماضي. يومها، كان عون أبرز من قاد معركة إنقاذ الحريري من السجن السعودي، ولم يكن أحد يتوقع أن يدخل الحريري في مشكلة مع الجنرال. بالعكس، ما كان متوقعاً هو أن يصعّد الحريري ضد من تآمروا عليه، وهو ما لم يفعله خلال الانتخابات النيابية، وما لا يقدم عليه اليوم، بقتاله دفاعاً عن تمثيل قوي لحليفَي الرياض الأساسيين حالياً، أي القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي، بل إن الحريري يحاول مراعاة السعودية عندما يحاول منع تمثيل الكتلة النيابية السنية المعارضة له وللرياض، والقريبة من سوريا وحزب الله. وبالتالي، فإن ما تريده السعودية من الحريري اليوم أن يخوض معركة قاسية ضد عون باعتباره الواجهة التي تحمي خط حزب الله السياسي، هو أمر غير قابل للتحقيق.
من جهة ثانية، تعتقد السعودية، انطلاقاً من تفكير أناني ــــ غبي، أنه يمكن معاقبة لبنان والحريري نفسه، من خلال منع تأليف الحكومة. وعندما يقال للسعوديين إن الأمر قد يلامس مرحلة إسقاط تكليف الحريري، لا يصدر عن السعوديين أي رد فعل سلبي. حتى وصل الأمر بأحد المسؤولين السعوديين إلى القول بأن معاقبة لبنان اقتصادياً قد تكون أفضل لو أن تحالف عون ــــ حزب الله يشكل حكومة من دون الحريري والقوات اللبنانية. يعتقد هذا المسؤول أنها تكون فرصة جيدة لتوجيه ضربة اقتصادية للبنان، ويتم تحميل الفريق المعادي لها المسؤولية عن الانهيار عندما يحصل.
مشكلة أصحاب هذا الرأي أنهم يتجاهلون أن لا حزب الله ولا الرئيس عون بوارد التخلي عن ترشيح الحريري. وهو قرار محسوم بأن الحريري هو رئيس الحكومة أو هو المرشح الوحيد لتأليف أي حكومة جديدة. أما الشق الآخر فيتعلق بالحريري نفسه، الذي يقول للأميركيين والفرنسيين إنه غير قادر على البقاء خارج السلطة، وإن إبعاده سيكون مناسبة لإضعاف نفوذه داخل مؤسسات الدولة. وفي المقابل، سوف تفتح الأبواب أمام الآخرين لتولي المسؤولية، وبطريقة لا تناسب المصالح الاستراتيجية للسعودية أو للغرب في لبنان. هذه النقطة تحديداً يتفهّمها الفرنسيون أكثر من غيرهم، ولو أن أولوياتهم تتركز على كيفية الحصول على مقعد في «بوسطة أميركية ــــ بريطانية» تتولى أكبر محاولة احتواء للجيش اللبناني، وتعزيز النفوذ داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية اللبنانية تمهيداً لجولة جديدة من الصراع مع المقاومة ومحورها في لبنان.
وفق هذه المعطيات، لا يبدو أن الأطراف الخارجية التي وفرت الغطاء للتسوية التي رافقت انتخاب العماد عون، متوافقة اليوم على تجديد هذه التسوية، علماً بأن الفريق الأول، والذي يمثله حزب الله في لبنان، لا يتصرف على أساس رفع منسوب نجاحاته، لا على مستوى الانتخابات النيابية في لبنان، ولا على مستوى الوضع في سوريا وتجدد حالة وفعالية المقاومة في فلسطين، ولا على مستوى الألم السعودي ــــ الأميركي في اليمن، بل على العكس، يتصرف الفريق الذي يقوده حزب الله بحكمة كبيرة، انطلاقاً من أن كل ما يجري من حولنا يعزز فكرة التوافق المحلي، كما يدرك هذا المحور أن مصلحة لبنان تكمن اليوم في استقرار سياسي وأمني يعزز الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي، ويفتح الباب أمام مراجعة لعلاقات لبنان العربية بما يخدم استقراره أكثر ويفيده في معركته للخروج من أزمته الاقتصادية.
الفريق الآخر ليس موحّد الوجهة والتصرف. داخلياً، يتصرف الحريري فعلياً كمن يريد «السترة»، وهو مستعد للموافقة على أي صيغة تؤمن حصص القوى البارزة محلياً. كذلك تريد «القوات» تعزيز حضورها داخل الدولة، وهي تعلمت من تجربة الانتخابات النيابية الأخيرة أن البقاء خارج السلطة أمر سيئ، كما تعتقد بأن وضع منافسها الرئيسي، أي التيار الوطني الحر، ليس بجيد. وهي لن تترك له الساحة المسيحية. أما الشريك الثالث، أي النائب وليد جنبلاط، فإن تشكيل الحكومة اليوم يتيح له أخذ نفَس والتفكير بآلية جديدة للبقاء لاعباً رئيسياً في الساحة هنا، وخصوصاً أن مشاكله تكبر يوماً بعد يوم، وثمة تحديات غير مسبوقة يواجهها اليوم في ملعبه الضيق.
خارجياً، ليس بإمكان الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية دعوة حلفائها لانتظار متغيرات إقليمية كبيرة. ويوجد الكثير من الغباء لدى أولئك السياسيين اللبنانيين الذين يعتقدون بإمكان الرهان على تحولات كبيرة في سوريا أو العراق أو حتى مع إيران. لكن المشكلة تكبر عندما نقترب من السعودية، التي تتصرف وكأنها متروكة من دون عاقل أو كبير يقدر على لجمها. لا تعرف السعودية اليوم سوى لغة الانتقام. هي لا تجيد الربح طبعاً، لكنها لا تجيد حصر الخسائر أيضاً. وهذه كارثة ستقودها الى المزيد من الخسائر في لبنان، كما خسرت في سوريا والعراق وفلسطين، وكما تعيش أزمة متفاقمة نتيجة جنونها الدموي في اليمن. وبالتالي، فإن توقع خروج موقف منطقي من الرياض هو توقع في غير محله، ما يوجب على حلفاء السعودية من الغربيين ومن اللبنانيين الضغط لمنعها من ارتكاب المزيد من الحماقات هنا. إلا إذا كان بيننا من لا يزال يرى منامات فيها ملايين تسير في شوارع بيروت والشام ترفع رايات 14 آذار.
يبقى أن المشكلة الأكبر التي يواجهها الناس، جرّاء هذا الجمود، لا تتصل بخلافات السياسيين وحساباتهم، بل في كون هذا الجمود يبعد الدولة عنهم يوماً بعد يوم. يحصل ذلك فيما المشكلات الكبرى تتفاقم. من أزمة النزوح السوري الى ملف المالية العامة وموازنات الدولة والقطاع الخاص على حد سواء، الى حالة الفوضى العامة التي تسود كل القطاعات من دون استثناء. والتي تحصل بطريقة تجعل بعض الزوار الأجانب يستغربون كيف أن الناس لا يزالون يسيّرون أمورهم من دون رصاص أو دماء!
الفاسدون يفضح بعضُهم بعضاً
من فوائد المشكلات القائمة بين القوى السياسية النافذة، ومن فوائد نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة أن الكل يرمي على الآخر مسؤولية الكوارث والأزمات. لكن اللطيف اليوم، هو التراشق ليس بالكلام فقط، بل بالملفات. ويبدو أننا على أبواب مرحلة يكشف فيها الكثير من الخبايا التي تدلّ الناس على من سرقهم خلال مرحلة ما بعد الحرب الأهلية ومرحلة ما بعد خروج سوريا من لبنان. وهذه الملفات لا تخص فقط المشكلات الناجمة عن مخالفة القوانين، بل تخص الثروات التي تجمّعت لدى ما يقارب 500 شخصية يشكلون الوسط القيادي في غالبية القوى النافذة في لبنان. وهي ثروات تفوق بكثير ما كان الناس يتوقعون. ولو حصل أن استُرِدّ قسم منها الى الخزينة، لكان ديننا العام أقل بخمسين بالمئة على الأقل مما هو عليه اليوم. لكن المشكلة أن هذه المعركة سوف تصيب مؤسسات كبيرة في الدولة وفي القطاع الخاص، ولا سيما القطاع المصرفي الذي ستخرج من أدراجه كل المعلومات التي ظلت على الدوام مصنّفة في خانة المعلومات المحرّمة!