ما لا تعرفونه عن 'أكذوبة' مؤشر مدركات الفساد..

ما لا تعرفونه عن 'أكذوبة' مؤشر مدركات الفساد..
ما لا تعرفونه عن 'أكذوبة' مؤشر مدركات الفساد..
نشر موقع قناة "الجزيرة" تقريراً عن مؤشر مدركات الفساد وكتاب "رشوة"، مشيرا الى أنه "في آخر تقرير نُشر لمؤشر مدركات الفساد، الصادر في شهر كانون الثاني من عام 2019، أُعلنت الدنمارك كأنظف بلد في العالم، رغم حقيقة أنها قبل عدة أشهر قليلة فحسب شهدت اعتراف أحد أكبر مصارفها بغسيل أموال تبلغ قيمتها 200 مليار يورو، في واحدة من أكبر عمليات غسيل الأموال في التاريخ. وهذا دليل على وجود مشكلة أكبر داخل منظومة مؤشر مدركات الفساد، وهي أنه يغطي فقط جوانب الفساد التي تحدث في البلدان الأكثر فقرا لا تلك التي تساعد في دفع عجلة الاقتصاد في الدول الغربية الثرية. إن المعيار الحقيقي للفساد سيشمل على الأقل السلطات ذات النفوذ العازمة على غسيل المال القذر".

وبحسب الموقع، لحسن الحظ، ثمة عمل بحثي يتحدى النهج التقليدي القائم، حيث يُمثِّل كتاب "رشوة" لدافيد مونتيرو إضافة جديدة ممتازة في هذا الصدد. كأي شخص يحاول أن يحيط بجوانب الفساد، ربما كان على مونتيرو أن يقصر بحثه على البيانات المتاحة. لكنه يحذّرنا من الطبيعة المحدودة لتلك المواد، ويتفادى التقديرات المتضخمة التي تضر أكثر مما تنفع، لافتا إلى طريقة جديدة في التفكير بشأن مكافحة هذه الكارثة العالمية.

ويختار مونتيرو أدلته بعناية، ويسلط الضوء، كما ينبغي، على الشركات التي تقوم بدفع الرشى، لا على الطرف المتلقي فحسب، ومن ضمنها بعض أكبر الأسماء في مجال الأعمال، مثل شيفرون، هاليبيرتون، وآي بي إم، والعديد غيرها، قائلا: "إن الرشوة، بعكس بقية الجرائم، تنفّذ ببطء، بدفعات سرية تتدفق بين شركة وحكومة ما، على مدار سنوات. لتكون النتيجة كارثة تتكشف ببطء، مخلّفة من الضرر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ما لا يمكن رؤيته بالعين المجردة".

ويُحلّل مونتيرو سلسلة من فضائح الفساد بهدف استخلاص دروس مختلفة، ويبدأ من برنامج النفط مقابل الغذاء الذي تم بإشراف الأمم المتحدة في العراق بين عامي 1995 و2003، عندما قامت الولايات المتحدة بغزو البلاد، حيث مكّنت تلك المبادرة الفاسدة أكثر من 2000 شركة من التواطؤ مع نظام الديكتاتور العراقي السابق صدام حسين لكي يتجنّب العقوبات المفروضة من الأمم المتحدة، في دليل واضح على فشل الأحكام الدولية لمكافحة الفساد. فقد كان يفترض بالبرنامج أن يضمن بألا يتحمل المواطن العراقي تبعات أفعال حكومته. لكنه عوض ذلك، مكّن المتنفذين في بغداد من التربح عبر تلقي الرشى من الشركات المتعطشة للنفط، وحرمان المواطنين العراقيين من المأكل والمياه النظيفة، وأبسط الأدوية.

وأثبتت تلك الفضيحة كيف أن الشركات لا تتورع عن تقديم الرشى إن طُلبت منها، بهدف حماية مصالح المساهمين. يفصّل مونتيرو أسباب ذلك في أحد أهم أقسام الكتاب، متناولا مخاطر وعوائد المشاركة في الفساد، وذلك بالرجوع إلى عمل الاقتصادي جوناثان كاربوف، الذي يشير بحثه إلى أن فرصة ملاحقة الشركات بدعوى إرسال الرشى إلى الخارج، في المتوسط، تتجاوز 5% بقليل، وبأن هذه الشركات تربح 5 دولارات مقابل كل دولار أميركي تنفقه في الرشوة، ما يعني أن المكاسب تتخطى المخاطر، ومن هذا المنظور فالرشوة سلوك عقلاني.

ويستمد كاربوف نتائجه من المتابعات القضائية لقانون ممارسات الفساد المتعلقة بالأجانب عام 1977، وهي وثيقة تشريعية أميركية تم تمريرها في أعقاب فضيحة ووترجيت، تمنع الشركات الأميركية من الانخراط في ممارسات رشوية خارج البلاد. والمتابعات القضائية لهذا القانون، وتحقيقات الكونغرس التي عادة ما تصاحبها، مركزية في فهم كيفية عمل الفساد، كما أنها تظل أفضل مصدر متاح لأي شخص يعمل على هذه المسألة، وكثيرا ما استند إليها مونتيرو في تحليله للفساد الذي انتشر في الصناعات الدفاعية اليونانية من أواخر التسعينيات حتى مطلع القرن الحالي، عندما قامت شركات سلاح أميركية وروسية وأوروبية بدفع المال لمتنفذين داخل الحكومة اليونانية مقابل الظفر بعقود لصفقاتِ أسلحة، مما أدى إلى تضخم الأسعار بهدف التعمية على أموال الرشى المدفوعة ضمن هذه الصفقات. سرعان ما أُضيف ارتفاع الأسعار إلى فاتورة الدين العام المستفحل في البلاد والذي انتهى بأزمة شلّت البلاد كليا عام 2009.
 
يتطرّق مونتيرو أيضا إلى فضيحة شركات الأدوية الغربية، قبل أن تتداركَها السلطات الصينية، عندما قامت تلك الشركات باستغلال حقيقة أن مستحقات الأطباء الصينيين كانت مرتبطة بكمية الأدوية التي يصفونها للمرضى، حيث كان نظام الأجور يرمي إلى مكافأة الأداء الجيد للأطباء، لكن المطاف انتهى به إلى دفع الأطباء لوصف أدوية مفرطة للمرضى. وكانت النتيجة متوقعة، حيث قام الوسطاء بدفع رشى للأطباء بالنيابة عن شركات الأدوية الكبرى اليائسة لاستغلال أفضلية ربح لم تعد متاحة في الأسواق الغربية. وهذا لم يؤدِّ فقط إلى تقويض الثقة بالأطباء، لكنّه أفضى أيضا إلى عواقب وخيمة على الصحة العامة، ويقول مونتيرو: "إن الصين أعلنت بأن الاستخدام المفرط للمضادات مسؤول عن ظهور سلالات بكتيرية مقاومة للمضادات الحيوية التي تسببت بدورها بالعديد من الأمراض، مثل التدرن الرئوي، وداء الزهري، بالإضافة إلى الفيروسات الفائقة التي أسماها المسؤولون الطبيون بـ "البكتيريا الكابوس" لأنها ظلّت تقاوم أنواع المضادات الحيوية كافة، ما يعني أنها فيروسات قاتلة".

ثم يُجمِل مونتيرو البحث بإظهار أنه كلما ارتفعت معدلات انعدام النزاهة في بلد ما، كان النمو الاقتصادي أدنى وارتفعت اللا مساواة في الدخل. ما المعادل الماليّ لفقدان الثقة بالمسؤولين الرسميين والمؤسسات العامة الناجمة عن الرشوة المتفشية؟ إن كان اعتداء الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أعراف الحكم قد شكّل صدمة للعديد من الأميركيين، فما شعور النيجيريين، برأيك، بعد عقود من الفساد الحكومي المستفحل؟ كيف سيتمكّن الأوكرانيون، على سبيل المثال، من بناء ديمقراطية حقيقية إن كانوا معتادين على وجود موظفين حكوميين تشغلهم السرقة عن مساعدة الناس؟

كل مَن يكتبون عن الفساد يجدون أن تشخيص المرض أسهل من وصف الدواء، وهو ما يؤدي، في جزء منه، إلى شحّ المعرفة بشأن الأبعاد الفعلية للفساد، كما أنه يعكس مدى استعصاء المشكلة. فَوباء الرشوة الخارجية المعاصر، على سبيل المثال، محصلة العولمة، وأي شيء سيعوق تدفق تلك الأموال سيؤدي أيضا إلى الحد من نشاطات شركات وأفراد نافذين، يرتبطون ببعضهم على نحو وثيق، إلى جانب أنهم متهرّبون ضريبيا، ما يعني أن هذا النوع من الجهود سيعاني الكثير في محاولة إحداث الزخم السياسي.

تُركِّز العديد من الوصفات الطبية التي يصفها مونتيرو على الدول التي تتوسل الرشى من الشركات، ويدعو إلى إيجاد سُبل تمويل أكثر كفاءة لوكالات محاربة الفساد وتقوية استقلالية المحاكم من خلال رفع رواتب العاملين فيها، وتوفير سبل أفضل للحماية القانونية. لكنه مع ذلك، لا يتطرق إلى كيفية تحقيق تلك التغييرات في البلدان التي يغلف فيها الفساد الطبقة السياسية بأكملها. لماذا سيقوم شخص في الكرملين، على سبيل المثال، بالموافقة على تمرير إصلاحات يمكن أن تشل نموذجه التجاري بالكامل؟ حتى إن ثار الروس، فإن النخبة ستتمكن من إخفاء ثروتها المسروقة من الشعب، بما أنها مخفية في الخارج دائما. الحل الوحيد في هذه الحالة هو إصلاحات تدريجية طويلة المدى، تُرغِم الموظفين الحكوميين والقطاع الخاص على توخي النزاهة والمصداقية. لكن من الصعب تحقيق هذا الأمر طالما أن عائدات الفساد تتعدى مخاطره.

أما فيما يتعلق بالنظر إلى ما هو أبعد من البلدان التي تتكدّس فيها الرشى، حيث يتم دفع تلك الأموال وغسيلها، فمونتيرو محق في دعوة الحكومات للعمل يدا بيد في محاربة ما أسماه "نظام الرشاوى العالمي"، لا سيما في بلدان مثل قبرص، وبريطانيا، والولايات المتحدة، وهي من أهم البلدان في المنظومة المصرفية العالمية. لكن كتابه لا يخصص الكثير من المساحة للطرق الجديدة التي ينبغي أن تعمل فيها الحكومات معا، أو طرق التغلب على عقبة انعدام الثقة التي ضربت السياسة حول العالم، وجعلت إمكانية التعاون الدولي في تحدي الفساد أقل مما كانت عليه قبل عقود من الزمن.

الحل الأبرز الذي لا يستفيض فيه مونتيرو هو أن تُلزم الحكومات الشركات باتباع الشفافية. فكل حلقة من الفساد الموصوف في الكتاب تتضمّن استخدام بنى شركاتية مجهولة تسمح للمسؤولين الفاسدين بإنكار وجود أي رابط بينهم وبين الرشى التي يحصلون عليها، مما يتيح للشركات ادّعاء الجهل بأنها كانت طرفا في عملية ارتشاء. يظل من السهل، بل وغير المُكلِّف حتى، تصميم شبكة من الشركات الوهمية، إلى درجة أن الأمر سيُشكِّل صدمة لمؤسسات تعزيز القانون من باب أن هذه الشركات تجعل من المستحيل تحديد المُلّاك الفعليين لهيئة مالية معينة. وأظهر لنا التاريخ أن الناس لا يتورّعون عن ارتكاب الجرائم في حال كانت الحصانة مضمونة.

برغم بعض التحركات في الاتحاد الأوروبي وأوساط صناع القرار في الكونغرس الأميركي لإجبار الشركات على الإعلان عن مُلّاكها الفعليين، فإن هذه الجهود ترقيعية وتفتقد إلى الموارد الكافية، كما أنها بالكاد بدأت تسري على الائتمانات والمؤسسات التي تحوز حصة لا يُستهان بها من ثروة العالم. إن المساحة المتاحة لوكلاء الفساد ستتقلّص بشكل كبير، في حال عزمت ملاذات الثروة الكبرى مثل سويسرا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا الإعلان عن المُلّاك الفعليين لأصولها العقارية وشركاتها الكبرى كافة، كما أن الأمر سيُسهّل من عمل جهات تعزيز القانون.

وختم الموقع": "لقد قام مونتيرو بعمل مذهل في لفت النظر إلى ضرورة أن يكترث الجميع بشأن الفساد. والآن، فالأمر يتعلّق بالسياسيين والأكاديميين والمسؤولين الحكوميين لتحديد مكافحة الفساد كأولوية، وإلا فإن هذا النوع من الفساد الحكومي المتصاعد في أماكن مثل الفلبين وروسيا سيصبح عُرفا عالميا. فكِّروا فقط في كمية المبالغ الصغيرة التي تدفّقت إلى الولايات المتحدة بهدف تدجين نظامها السياسي. إن محاربة الفساد ليست فقط لأن الأمر غاية في ذاته، ولكن لأنه ضروري للدفاع عن الديمقراطية الليبرالية".

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى