سامر زريق نقلاً عن "إيلاف"
منذ دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، لحماية أمنها القومي من حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وإنقاذ سكان "الدونباس" من سياسات الاضطهاد، أغدق الغرب، وعلى رأسه أميركا، أوكرانيا بمساعدات عسكرية هائلة، من صواريخ ودبابات وأسلحة حديثة، وأنظمة الكترونية، ومدربين ومستشارين وضباط ومرتزقة.
مع ذلك، وبعد مرور سنتين، لم ينجح الغرب في تحقيق ما يصبو إليه. لا بل على العكس، يشير تطور سير المعارك في الأسابيع الأخيرة، وحسب وسائل الإعلام الغربية نفسها، إلى تحقيق الجيش الروسي تقدماً ميدانياً في غير بقعة جغرافية.
الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن مدى نجاعة الاستراتيجيات العسكرية الغربية، وعن تصور أميركا والدول الغربية ذات التأثير لكيفية إنهاء الصراع الأوكراني، أو ما يصطلح على تسميته بـ"اليوم التالي".
لا استراتيجية عسكرية للغرب
يقول الكولونيل جاك بو، وهو ضابط استخبارات سويسري، ومستشار سابق في حلف "الناتو"، إنَّ "الغرب ليس لديه استراتيجية للخروج من الصراع في أوكرانيا". ويضيف خلال حوار عبر إحدى المنصات على "يوتيوب" بأنَّ "الغرب كان واثقاً منذ بداية الصراع من أنه سيكون قادراً على تدمير روسيا عبر العقوبات المكثفة، لذلك لم يفكر حتى في تحقيق الانتصار في ساحة المعركة".
وأكد الكولونيل بو أنَّ "وضع القوات المسلحة الأوكرانية يتدهور يوماً بعد آخر، فيما الجيش الروسي يتقدم تدريجياً". تصريحات الكولونيل بو ليست الأولى من نوعها، فقد سبقتها تصريحات أخرى لخبراء عسكريين، فضلاً عن نشر بعض وسائل الإعلام الغربية لتقارير تؤيد ما تحدث عنه.
وفي السياق عينه، تحدث المحلل السابق لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، لاري جونسون، منذ أيام قليلة، خلال إطلالة إعلامية عن "تغييرات خطيرة مقبلة في أوكرانيا، بسبب عدم قدرة القوات المسلحة الأوكرانية على سد الثغرات في الجبهة". وأضاف جونسون "نحن على وشك تغيير سريع وهام للغاية".
كذلك، اعترف الجنرال الأميركي المتقاعد، دانييل ديفيس، بأن أوكرانيا "لن تكون قادرة على استعادة السيطرة على الأراضي التي فقدتها، بل ستخسر المزيد أيضاً. أصبحت بعض الحقائق صارخة للغاية ولا يمكن إخفاؤها". وأكد أنَّ المساعدات العسكرية الأميركية التي جرى إقرارها أخيراً في الكونغرس "لن تكون قادرة على تغيير الوضع على الأرض". ويعتقد ديفيس، كما بعض النخب السياسية والعسكرية الأميركية، بأنه "يجب على الولايات المتحدة الشروع في مفاوضات سلام لحفظ القليل من ماء الوجه".
سلاح العقوبات
يضاف إلى ذلك، استهانة قادة الغرب بقدرات وكفاءة الجيش الروسي، ونفسه الطويل، على عكس القوات الأوكرانية، بالرغم من كل الدعم الغربي الذي منح لها على مختلف الصعد. ما سبق يشكل دلائل واضحة على مدى التخبط الذي يعاني منه الغرب في أوكرانيا، ويدحض السردية التي استمر في ترويجها على مدى سنتين عن قرب انهيار الجيش الروسي.
وتؤكد هذه التصريحات على مدى اعتماد أميركا والدول الغربية الكبرى على سلاح الاقتصاد الذي تسيطر عليه كـ"أداة" للحروب وتدمير المجتمعات وتفكيكها. فمنذ سنوات، يستخدم الغرب حزم العقوبات بجرعات مكثفة، يتم زيادتها بين الحين والآخر، من أجل الضغط على العديد من الدول، وفي طليعتها روسيا والصين.
هذه الاستراتيجية نجحت فعلاً في إخضاع عدد من الدول الصغيرة، أو تلك ذات الاقتصاد المتعثر أصلاً، لذا ضاعف حلف "الناتو" من حدة استخدامه لها ضمن إطار صراعه الجيوسياسي مع روسيا، ظناً منه أن هذا الطريق هو الأسهل والأنجح لإخضاع روسيا، مقابل غضّ النظر عن تطوير استراتيجية عسكرية فعالة، مفضلاً إغراق أوكرانيا بالمساعدات العسكرية بطريقة فوضوية واستعراضية.
وهذا ما أسهم في تعزيز الفساد لدى كييف وبلوغه مستويات كارثية، حيث أغرت الكميات الوفيرة لتلك المساعدات العديد من النخب العسكرية والسياسية الأوكرانية لجني ثروات طائلة. فظهر السلاح الأميركي والغربي في الكثير من أماكن الصراع وميادين النزاع، مثل القارة السمراء، وغزة، وغيرها. ولم تنجح الاستعراضات التي قام بها الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، عبر تغيير وزير دفاعه وبعض قادته، في الحدِّ من انبعاث روائح الفساد.
هذه التصريحات تكشف أيضاً سبب عدم اهتمام الغرب بالفساد الهائل لدى كييف. ذلك أنَّ الاهتمام الغربي كان محصوراً بسلاح الاقتصاد فقط، وبمعنى أدق بفرض حزم العقوبات على موسكو، وصولاً الى استيلاء واشنطن على بعض أرصدتها المالية مؤخراً. ولعل هذا ما يفسر طول أمد المعارك واستمرارها منذ نحو أكثر من سنتين، والتي استنزفت اقتصاد العديد من الدول الغربية التي غرقت في المستنقع الأوكراني.
روسيا تتفوق اقتصادياً
من جانب آخر، يتسق كلام الكولونيل بو مع أحدث التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي، وعدد من المؤسسات ومراكز الدراسات الأوروبية، والتي تشير إلى أنَّ الاقتصاد الروسي حقق نسب نمو مرتفعة خلال السنتين الماضيتين، ولم يتأثر لا بالعقوبات، ولا بالإنفاق العسكري المتزايد، بما يعكس مدى قوته واستقراره. علماً أنَّ سلاسل العقوبات الغربية ضد موسكو لم تنطلق منذ سنتين، بل منذ عشر سنوات، وبالتحديد منذ إعلان استقلال جمهورية القرم عام 2014.
كذلك، فإن أقفال الأسواق الأوروبية أمام الغاز والنفط والبضائع الروسية، عاد بالسلب على شعوب القارة العجوز وحدها، التي تعاني من التضخم وارتفاع مضطرد في أسعار السلع. في حين أنَّ موسكو استفادت من هذا الإقفال، وحولته إلى فرصة لتطوير علاقاتها الاستراتيجية مع الصين وشرق آسيا، والدول العربية، ودول القارة الأفريقية، مما أتاح لها المجال دخول أسواق جديدة، وتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، وحتى ثقافية وفكرية.
عجز الغرب عن إضعاف الاقتصاد الروسي دفع به إلى الإيعاز لأوكرانيا بالقيام باعتداءات مباشرة على مصافي النفط ونظام تخزين الوقود منذ مطلع العام الحالي، في محاولة تستهدف لي ذراع الاقتصاد الروسي، وتوجيه ضربة مباشرة إلى الرئة التي يتنفس من خلالها، خصوصاً مع منع الشركات الغربية من العمل مع الحكومة الروسية، وتهديدها بفرض عقوبات عليها أيضاً، الأمر الذي يعقد عملية إصلاح المحطات والمخازن التي يجري قصفها.
مع ذلك، فإنَّ روسيا لا تزال قادرة على تجاوز آثار الضربات، فإنتاجها من النفط لا يزال وفق المستويات المخطط لها، فضلاً عن عدم وجود بوادر لأزمة وقود داخل روسيا. حسب رأي عدد من الباحثين في مجال الاقتصاد، فإنَّ الحكومة الروسية نجحت في رفع القدرات التنافسية لاقتصادها مقارنة بالاقتصادات الأوروبية، كما أنها نجحت في تعويض انسحاب الشركات الغربية من روسيا عبر زيادة الاستثمار وإدخال منتجين جدد. ويؤكد الباحثين على استحالة عزل الاقتصاد الروسي.
فهل تدفع هذه التقارير والأرقام بالغرب للعودة إلى طاولة المفاوضات ومعه أوكرانيا من أجل التوصل إلى سلام مستدام، والإقرار بفشله عسكرياً واقتصادياً في ترويض روسيا؟