يصرّ اللبنانيون المغتربون، سواء أولئك الذين تغرّبوا إلى بلاد بعيدة كالبرازيل وأستراليا وكندا والولايات المتحدة الأميركية وأفريقيا، أو أولئك الذين يعيشون في الدول العربية القريبة نسبيًا، على أن يقصدوا وطنهم الأمّ في كل مرّة تسمح لهم الظروف بذلك، صيفًا وشتاءً، لأنهم متعلقون به ويعشقونه في كل الفصول، ولأن له مع كل فصل فيه نكهة مغايرة ومختلفة، ولأن لهم فيه شيئًا عالقًا في الوجدان والبال. وهذا الشيء لا يعرف معناه سوى الذين خبروه وذاقوا مرارة الغربة، وإن كانت الغربة الداخلية أشدّ وقعًا في بعض الأحيان من الغربة الخارجية. وهذا ما ينطبق اليوم على كثير من اللبنانيين، الذين لا يزالون يقاومون كل "مغريات" الهجرة إلى الأوطان التي يُقال أن حقوق الإنسان محترمة فيها.
هؤلاء المغتربون، الذين يصرّون على زيارة بلدهم الأمّ موسميًا، يعرفون تمام المعرفة أنهم سيضطرّون للعيش ساعات طويلة من دون كهرباء، وهذا يعني أن التدفئة غير مؤّمنة. ويعرفون أيضًا أنهم لن يستطيعوا أن "يتبردخوا" في استعمال المياه غير الكافية لقضاء الحاجات الأكثر ضرورة. ويعرفون أنهم سيتشاركون مع أهلهم مرارة العيش في "جهنم". ويعرفون أنهم يقصدون البلد الأكثر فوضوية في قيادة السيارات، والبلد الذي تكثر فيه "زمامير" السيارات، وهم الآتون من بلاد لا يُستعمل "الزمور" فيها إلاّ للتنبيه من خطر محتمل. ويعرفون أيضًا وأيضًا أنهم سيُستَغّلون حيثما توجهوا، في الفنادق والمطاعم والمقاهي، بمجرد أنهم يملكون "فريش دولار".
يعرفون كل هذا ويصرّون على أن يكون لبنانهم وجهتهم في العطل السنوية وفي الأعياد، هذا "اللبنان" الذي يبقى بالنسبة إليهم أجمل البلدان، على رغم أن كل شيء فيه يدعو إلى الحزن والتحسرّ على أيام الزمن الجميل، يوم كان الأقربون والأبعدون يتغنّون به، ويتمنون لو أن لهم فيه "مرقد عنزة"، ويوم كان السياح من كل أقاصي الأرض، وبالأخص السياح العرب، يتمنون أن يقضوا إجازاتهم الصيفية في ربوعه. وهذا ما سمعه كثير من المسؤولين اللبنانيين، الذين التقوا مؤخرًا عددًا من المسؤولين الأجانب والعرب، الذين تمنوا أن يعود لبنان إلى سابق عهده، لأن فيه سحرًا غير موجود في أي بلد آخر.
وهذا السحر يدفع اللبنانيين المغتربين إلى الإكثار من زياراتهم لبلاد الأرز، ومن بينهم من يزوره مرتين في السنة الواحدة. وفي هذا السحر سرّ غريب عجيب، وهو بالتحديد ما يجعل الذين لا يزالون يؤمنون بأن لا بديل لهم عن وطنهم، وهم باقون فيه مختارين وغير مكرهين، يتعلّقون به بكل جوارحهم، على رغم أن الحياة فيه باتت لا تُطاق.
فهذا التناقض، الذي يعيشه اللبنانيون، مقيمين ومغتربين، له ما يبرّره وله أسبابه السوسيولوجية والإيمانية. فلو لم تكن الحال هكذا فكيف يمكن تفسير استعداد شباب لبنان على التضحية بذواتهم دفاعًا عن أرض الجدود والأباء، وذودًا عن وطن المقدسات وذخائر القديسين، وطن العيش معًا تحت سماء واحدة، وفي أفياء علم واحد.
هذا هو لبنان، الذي هو مزيج من تناقضات لا تفسير علميًا لها. نشتاق إليه عندما نبتعد عنه. ونسعى إلى الابتعاد عنه عندما نكون بقربه. هذا هو سرّ هذا السحر، وهو سرّ غريب عجيب.