كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
منذ ظهور نتائج الانتخابات، يدور جدل في العديد من الأوساط: هل تتحمَّل قوى المعارضة والتغيير والمستقلون مسؤوليةً عن ضياع الفرصة التاريخية لحسم المعركة و”استعادة البلد”، أم يجدر الاكتفاء بما حقّقه هؤلاء من مكاسب، هي الأولى من نوعها في تاريخ العمل السياسي في لبنان، والبناء عليها للمستقبل؟
بَدت نتائج الانتخابات النيابية أقل سوءاً ممّا توقّع البعض. فما انتظرته غالبية المحللين هو الآتي: اجتياح «الثنائي الشيعي» كامل المقاعد الشيعية، وهذا ما حصل. وتَقدّم “القوات اللبنانية”، وهذا ما حصل أيضاً. لكن المفاجآت كانت خصوصاً في مكانين:
1 – كان يُخشى أن يؤدي تشرذُم قوى “المجتمع المدني” و”الثورة” والمستقلين إلى خسارة شبه كاملة للجميع، فلا يخرق من مرشحي هؤلاء سوى 5 أو 6 فقط. لكن النتائج أشارت إلى خرق يُقارب الـ12 نائباً أو الـ15، وفقاً لحسابات تصنيف كل نائب من هؤلاء.
2 – كان يُعتَقد أنّ المحسوبين على دمشق (طلال إرسلان، وئام وهّاب، إيلي الفرزلي، مروان خير الدين وسواهم) يمتلكون الحدّ الأدنى من الأرصدة التي تسمح لهم بأن يخرقوا أو يحتفظوا بمواقعهم. ولكن تبيَّن أنّ ذلك ليس صحيحاً.
وفي قراءة لهذه المعطيات معاً، يمكن استنتاج ما يأتي:
1 – لم تُمسّ حصة «الثنائي الشيعي» من نواب الطائفة، لكن حلفاءه المسيحيين وحلفاء دمشق خسروا أجزاء وافرة من أرصدتهم.
2 – تقدَّمت «القوات اللبنانية» وقوى «المجتمع المدني» و«ثورة 17 تشرين» والمستقلون بمقدارٍ واضح وفاعل.
صحيح أن المجلس الحالي بات يمتاز بالألوان الواضحة أو الفاقعة، بين «حزب الله» وحلفائه و«القوات اللبنانية» وحلفائها، خصوصاً بعد ابتعاد تيار «المستقبل» عن المسرح، ولكن ليس واضحاً أي تَموضع سيختاره العديد من القوى السياسية المصنّفة مستقلة أو من «المجتمع المدني» و»الثورة»، في المسائل الحسّاسة سياسياً واقتصادياً وطائفياً. ولهذا التصنيف تأثيره الحاسم على مسألة احتساب الغالبية والأقلية.
ويجري التداول اليوم بأنّ هناك حدّاً من التوازن الدقيق بين المحورين «القديمين»، 8 آذار أي «الحزب» مع حلفائه، و14 آذار أي «القوات» والأحزاب الحليفة، وأن الكلمة الفصل ستكون لنحو 10 مقاعد من القوى المستقلة أو «المدنيّة»، ليس معروفاً أي اتجاه سيسلكه كلٌّ منها في المسائل السياسية أو الطائفية أو الاقتصادية الحسّاسة.
إذا مالت هذه المقاعد إلى أحد المحورين المتنازعين، فسيتغلّب على الآخر داخل المجلس، حتى بالنسبة الى ما يتعلق بالقرارات التي تحتاج إلى الأكثرية المطلقة، أي الـ65 صوتاً. ولذلك، من البديهي أن يتهافت المحوران السياسيان على اجتذاب ما أمكَن من الأصوات المستقلة ليحقق الغلبة في المجلس.
وفي الأساس، كان الخيار السياسي هو السبب الأساسي في تَعثّر «ثورة 17 تشرين»، إذ لم تتوافق مكوِّناتها على وجهة نظرٍ واحدة في ما يتعلق بالنظام السياسي والاقتصادي والمشاركة الطوائفية والمقاومة وسلاحها وقرار الحرب والسلم ودور لبنان في المنظومة الشرق أوسطية.
وهذا العطل منع «الثوار» من إطلاق برنامج سياسي مشترك كان ضرورياً لنجاح «ثورتهم». ويضاف إلى ذلك ما اتَّصَف به بعضهم من شَخصانية عطّلت قدرتهم على تأسيس إطار قيادي جامع. وهاتان العقدتان: البرنامج والقيادة الموحَّدة لـ«الثورة» ظهرتا أيضاً في العملية الانتخابية، فلم يحصل توافق على برنامج انتخابي موحَّد ولائحة موحَّدة في كل الدوائر.
لقد أظهرت الانتخابات أنّ الرأي العام المتعطّش للتغيير يرغب في تجاوز المناكفات الصغيرة وصراعات النفوذ الشخصانية بين بعض رموز «الثورة» و«المجتمع المدني»، وأنه في أي حال أكثر صدقاً من بعضهم. ولذلك، هو منحَ العديد منهم أصواته، بلا حساب، ففازوا في المعركة.
ولكن، ثبُتَ أن قوى المعارضة والاعتراض جميعاً، كانت قادرة، وفي شكل مضمون، على اكتساح المجلس النيابي لو تخلّى العديد من أركانها عن الشخصانية والأنانية، ووافقوا على الانخراط في لائحة موحّدة وبرنامج موحَّد في الدوائر الـ15.
وإذا كان الرأي العام قد منح القوى المعارضة والاعتراضية والمستقلة هذا الرصيد الهائل، على رغم تَشرذمها، فإنه بالتأكيد كان سيمنحها فرصة اكتساح المجلس النيابي بكامله، وبغالبية وازنةٍ جداً تتكفّل بإحداث تغيير جذري في الواقع القائم.
في تقدير بعض الباحثين أنّ تحالف 14 آذار و«الثورة» كان سيحصل على ما يُقارب 80 مقعداً في المجلس. أما إذا رفضت قوى «الثورة» و«المجتمع المدني» والمستقلون تركيب شراكة انتخابية مع 14 آذار، وأصَرّت على مقاطعة القوى السياسية كلها بلا استثناء، فيمكن أن تحصل على كتلة تفوق الـ35 نائباً، ومثلها تكون كتلة 14 آذار، أي قرابة الـ70 نائباً معاً.
لكن ما حصل هو أنّ قوى 14 آذار نفسها كانت مشرذمة ومتنافسة، ومثلها كانت قوى «الثورة» و«المجتمع المدني» والمستقلون. وهذا التشرذم في المجموعتين أطاح فرصةً تاريخية لتحقيق تغيير حاسم، نحو بناء الدولة وسيادة سلطة القانون والمؤسسات. وهذا هو الشعار الذي يرفعه الطرفان على الأقل… إذا كانا صادقين!
إذاً، لماذا لم يحصل التحالف، حتى داخل قوى «الثورة» و»المجتمع المدني»؟
المؤكد أن الأمر يتعلق بالشخصانية والأنانية لدى البعض، ولكن أيضاً، على الأرجح، نجحت قوى السلطة في «خَردقة» هذه القوى وإدخال «أحصنة طروادة» إليها. وبذلك، أحبطت أي محاولة لتركيب إطار جامع لها، سواء في الانتخابات أو في خارجها.
وبات صعباً جداً فرزُ من هو أصيل ومن هو دخيل على «الثورة». وسيكون أول هدف للثوار في أي محطة مقبلة هو تنظيف صفوفهم… إذا استطاعوا.
ولكن، في أي حال، فرصة الانتخابات الثمينة جداً طارت لـ4 سنوات كاملة، إلا إذا حصل ما هو خارق للطبيعة. وحتى ذلك الحين، أي بلدٍ سيكون؟ من يستطيع التكهُّن؟