رغم الدينامية الجديدة التي أَطْلقها الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري في محاولةٍ لـ “كسْر المأزق” بعد نحو 80 يوماً على تفويضه من البرلمان بغالبيةٍ مرموقة (111 نائباً من أصل 128) لتأليفِ حكومةِ ما بعد الانتخابات، فإن من الصعب تَوقُّع تَصاعُد الدخان الأبيض في وقت قريب، وسط تقديراتٍ بأن الأمر قد يحتاج إلى 80 يوماً أخرى، وربما أكثر، لمعرفة الخيْط الأبيض من الأسود في ملف تشكيل الحكومة الجديدة، وفي واقع لبنان برمّته.
وثمة اقتناعٌ في بيروت تعبّر عنه القوى السياسية على اختلاف ألوانها، خصوصاً خلف الستائر المقفلة، بأن ما يضاعف المصاعب أمام معاودة تشكيل السلطة في لبنان تَزامُنها مع معاودةِ تشكيل المنطقة من بوابةِ المواجهة المفتوحة والمتوالية ضدّ نفوذ إيران وأذرعها، على امتداد هلال الأزمات اللاهبة، وهو الأمر الذي يجعل من بدء تنفيذ العقوبات الأميركية النفطية ضد إيران في الرابع من نوفمبر المقبل تاريخاً انعطافياً في مسار المنطقة برمّتها.
ولا تقلّل هذه الخلاصة، التي ترتقي الآن إلى مستوى “الحقائق السياسية”، من أهميةِ عملية “كسْر الصمت” التي بادَر إليها الحريري في الأيام الماضية في اتجاهاتٍ مختلفة في محاولةِ “إنعاشٍ سياسية” لمساعي التأليف ومن “حواضر البيت” اللبناني. لكن هذا الأمر لن يكون كافياً للإفراج عن الحكومة الجديدة التي يَخْضع الصراعُ على التوازناتِ فيها (الأحجام) لوهجِ الاستقطاب الاقليمي الحادّ والمرشّح لمزيدٍ من الحماوة على وقْع العقوبات الأميركية، وغير المسبوقة في التاريخ على إيران.
وليس أدلّ على هذا الربط “الساري المفعول” من الإعلان الشهير لقائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني الجنرال قاسم سليماني غداة الانتخابات النيابية في لبنان عن “الانتصار الكبير” وقوله ان “حصول حزب الله على 74 نائباً من أصل 128 ولأول مرة في البرلمان اللبناني يحوّله من حزب مقاومة الى حكومة مقاومة”، وهو ما تَردّد صداه تالياً في مطالبة حلفاء إيران بتشكيلِ حكومةٍ تعكس نتائج الانتخابات على قاعدة “النسبة والتناسب” أو ما عُرف بـ”المعيار الواحد”.
ولم يعد خافياً في بيروت أن “حزب الله” وحلفاءه، كرئيس الجمهورية العماد ميشال عون وتياره، يجاهرون بأن المملكة العربية السعودية التي لم تَرُق لها نتائج الانتخابات لا تريد حكومةً بتوازناتٍ تميل كفّتها لمصلحة حلفاء إيران، وتالياً فإن الرياض تحضّ حلفاءها على معاندة نتائج الانتخابات والتشدّد حيال تشكيل الحكومة الجديدة، وهو الأمر الذي نفتْه بطبيعة الحال سفارة المملكة في لبنان حين أكدت عدم تدخلها وحرْصها على “حكومةٍ متوازنة” في أسرع وقت ممكن.
ومن المتوقّع أن يعاود الأمين العام لـ“حزب الله” حسن نصرالله في إطلالته الثلثاء تأكيد ضرورة تشكيل الحكومة الجديدة وفقاً لنتائج الانتخابات. ومن غير المستبعد أيضاً ان يغْمز من قناة السعودية في معرض تحميل “الخارج” مسؤولية تأخير تأليف الحكومة أو الإيحاء بأن الرئيس الحريري غير طليق اليديْن في تعاطيه مع تعقيداتٍ مُفْتَعَلة أو مُضَخَّمَة، في إشارةٍ إلى عدم تَناسُب مطالب “القوات اللبنانية” والحزب “التقدمي الاشتراكي” مع نتائج الانتخابات.
وقالت أوساط بارزة في تحالف “8 آذار” لـ“الراي” إن ثمة اتفاقاً مُنْجَزاً وحاسماً بين الرئيس عون ورئيس البرلمان نبيه بري و”حزب الله” على أنه يجب أن تعكس الحكومة في تركيبتها وأحجامها وتَوازُناتها نتائج الانتخابات، وهو أمرٌ لا يمكن التراجع عنه أو القبول بمعادلاتٍ من شأنها جعل الانتخابات ونتائجها كأنها لم تكن.
وإذ تأخذ هذه الأوساط على الحريري تسليمه بمطالب “القوات” و”الاشتراكي” لاعتباراتٍ إقليمية، تلمح إلى ما تصفه بـ”مسعى فرنسي لفكّ الطوق عن تشكيل الحكومة الجديدة لا يمكن التكهّن بنتائجه”، مع ميْلها إلى تَوقُّع استمرار المراوحة ومن دون حكومة إلى حين اتضاح اتجاهات الريح في المنطقة في ضوء المواجهة المتعاظمة بين الولايات المتحدة وإيران.
والكلامُ عن “اتفاقٍ ثلاثي” بين عون وبري و”حزب الله” على حكومةٍ بمثابة “ميني برلمان”، يجعل من المساعي المتجدّدة على خط المفاوضات التي يقودها الحريري بمؤازرةِ بري بعد معاودة تطبيع العلاقة بين الرئيس المكلف ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل مجرد “تمرينٍ سياسي” للحفاظ على الحد الأدنى من “المناخ الإيجابي” في مرحلةِ “تقطيع الوقت” في انتظارِ ما ستؤول إليه تطورات المنطقة.
وثمة هواجس تزداد وقْعاً في بيروت من مغبة دخول المنطقة مرحلة “انعدام الجاذبية” مع بلوغ العقوبات الأميركية مداها ضد إيران واحتمال هزّ طهران والنظام فيها، وما يمكن أن يشكّله من ارتداداتٍ ربما يكون لبنان ساحتَها الأكثر ضجيجاً، خصوصاً في ضوء خط التماس القابل للاشتعال على الحدود اللبنانية – الاسرائيلية ومتى اقتضتْ الحاجة.
فرغم الضوضاء السياسية في بيروت الناجمة عن “يومياتِ” الصراع على تشكيل الحكومة، فإن الأنظار شاخصة إلى إيران وكأنّ لا صوت يعلو فوق عصا العقوبات الأميركية الغليظة، وسط أسئلةٍ عما إذا كانت المنطقة على موعدٍ مع “زلزالٍ إيراني” من السقوط رمْياً بتلك العقوبات أم أن طهران التي اختبرتْ العزلةَ لعقودٍ قادرةٌ على احتواء الإجراءات الموجعة والنجاة بنفسها؟
وثمة سيناريوهاتٌ تلوح في الأفق على وقع الهزة المحتملة للنظام الإيراني، وفي طليعتها احتمال خطْف اسرائيل لـ”الفرصة المؤاتية” عبر شنّ حرب على “حزب الله” للتخلّص من “النوم في جوار التنّين” ومحاولة الإجهاز على ترسانته الصاروخية في ظل دعم أميركي لا محدود لتل أبيب.