علي دقماق – الأخبار
منذ أن ولدت المقاومة الإسلامية في لبنان، كان مصطفى بدرالدين أحد قادتها. الرجل العسكري ــ الأمني الحازم، كان القائد الذي يتابع شؤون «عسكره»، متابعة أبوية حثيثة. وأكثر ما كان يركّز عليه التحصيل العلمي، واضعاً إياه في مرتبة واحدة مع العمل الجهادي. في الذكرى الثانية لاستشهاد السيد ذو الفقار، يقدّم أحد المقاومين شهادة عن تجربته معه في هذا المجال.
«معك وسيم من عند السيد ذو الفقار، إلك غرض معي»، كانت الساعة تشير إلى التاسعة من صباح الثالث عشر من تشرين الثاني 2015، حين تلقى محمد، «المجاهد في حزب الله»، اتصالاً من مكتب السيد مصطفى بدر الدين، «المعاون الجهادي» للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. سريعاً، تواعد مع المتصل، والتقاه داخل مقر للحزب في الضاحية الجنوبية، حيث تسلم منه مخطط رسالة ماجستير، حول الدور التركي في الأزمة السورية، كان قد أرسله إلى المسؤول العسكري والأمني للمقاومة في سوريا، مصطفى بدر الدين، للاطلاع عليه وإبداء رأيه به. كان محمد يعتقد، جازماً، بأن السيد ذو الفقار، صاحب كفاءة علمية أكاديمية، وخبرة عملية ميدانية في آن، الأمر الذي سيعطي مشروع الرسالة قيمة مضافة.
بشغف كبير، سحب الشاب العشريني الأوراق من المغلف الأسمر. وبكثير من الحماسة، قرأ تعليقات السيد ذو الفقار، الذي صنف «الشهادة الجامعية» و«العمل الجهادي» في الأهمية نفسها، مع تمنياته له «بالتوفيق والسداد»، محدداً له هدفاً جديداً: «بدّي الدكتوراه بعد الماجستير». وختم السيد ذو الفقار بـ«سلامي للوالد العزيز والأهل». باهتمام بالغ، تابع محمد الاطلاع على الأفكار والملاحظات التي خطّها له بدر الدين باللغة الإنكليزية، والتي ركز فيها على الأهمية «الجيواستراتيجية» و«الجيوسياسية» لتركيا، مروراً بالأزمة التركية ـــــــ الكردية التي تتصدر مشهد الشمال السوري حالياً، وصولاً إلى تقلص الدور التركي وتأثيره في الحرب السورية، نظراً الى الحضور السياسي والعسكري الروسي المباشر في الميدان السوري…
كان محمد قد أرسل مخطط رسالة الماجستير، عبر البريد الخاص، إلى مكتب السيد ذو الفقار، قبل شهر وبضعة أيام من تسلّم الرد، وهو اتخذ قراره هذا، بعدما شاهده للمرة الأولى، خلال جولة ميدانية على إحدى جبهات القتال ضد «التكفيريين»، بالقرب من العاصمة السورية دمشق.
«صاحب عقل علمي»
يستذكر السيد محمد بدر الدين، الجانب العلمي من شخصية مصطفى، شقيقه وصديق طفولته. «منذ نعومة أظفاره، لم يكن لديه إخفاق في دراسته، كان يقرأ كثيراً، في المواضيع (الدسمة) على وجه الخصوص، يكتب بتأنّ، ولديه خط جميل، سريع الاستيعاب، وقدرته عالية في تخزين المعلومات وحفظها. اهتم بالاطلاع على الأحداث التاريخية، ليستشرف من خلالها المستقبل. إلى جانب مسؤوليته في المقاومة، كان العلم همه الأكبر، يتابع الأوضاع الدراسية لأفراد العائلة كافة، ينصحهم ويوجههم في اختيار اختصاصاتهم، ولا ينقطع عن مواكبتهم، رغم كثرة انشغالاته وضيق وقته، كان لديه حرص شديد على نيل كل منهم شهادة جامعية». جدول الأعمال بين الأخوين كان كبيراً، إلا أن «متابعة المنح والمساعدات الدراسية لمن يطلبها من المحتاجين، كانت على رأس الأولويات».
رغم تاريخ السيد ذو الفقار الحافل بالإنجازات العسكرية والأمنية الاحترافية، لم يتردد في تنفيذ رغبته بإرادة حديدية، بمتابعة دراسته الجامعية. تنقل بين الجامعة الأميركية في بيروت «AUB»، التي لم ينس كل زاوية فيها… والجامعة اللبنانية الأميركية «LAU»، التي نال منها شهادة البكالوريوس في «العلوم السياسية» عام 2005. أتقن اللغة الإنكليزية، ولم يكتف بتحصيلها أكاديمياً، بل كان يتحدى نفسه ليتقنها بمهارة عالية، من خلال نقاشات وحوارات في شتى المجالات، مع مقربين منه يتكلمونها بطلاقة. هذا الاتقان مكّنه من خوض مفاوضات شاقة مع الوسيط الألماني الذي كان يقود المفاوضات غير المباشرة بين العدو والمقاومة، وأثمرت نتائجها إبرام صفقات تبادل للأسرى بين حزب الله والعدو الإسرائيلي، والتي كان أبرزها عامي 2004 و2008.
انعكست الخلفية العلمية لبدر الدين على أدائه داخل الحزب، فتجلّت بمنهجيات علمية اتبعت في التخطيط والتنفيذ لآليات العمل، فضلاً عن إقامة ورش التأهيل والتطوير. كان متميزاً في إدارة الملفات الموكلة إليه، يشدد على أن تكون الردود على متطلباته من قبل نظرائه ومعاونيه، وفق مخططات علمية، وأفكار مبرمجة ومحددة. باختصار، فإن الشهيد القائد مصطفى بدر الدين، هو «صاحب عقل علمي»، هكذا يصفه نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، الذي واكبه منذ الطلقات الأولى، حتى استشهاده ليل الثاني عشر من أيار عام 2016.
المقاومة «نخبة أدمغة»
«مقاتلين أد ما بدك في، بس نحن بدنا أدمغة… أكبر غلط الواحد يقبل مع إبنو يترك الدراسة، لو شو ما كان السبب، بعد ما خلانا حجم التهديد نوصل لهون. إلا إذا الشاب من الأساس بيحب العسكر، ساعتها بينتسب للمقاومة، وبكمل العلم بصفوفها. عنا اختصاصات كتير، من الهندسة، للمدفعية، وضد الدروع، والقناصة، وغيرها… بس ينطلق من هاي الخلفية، بيبرع وبيبدع بالميدان».
يروي أحد رفاق درب الشهيد القائد، أنه «تلقى اتصالاً عام 1997، من طالبين لبنانيين، يتابعان دراسة الفيزياء في الخارج، أخبراه أنهما يمرّان بضائقة مالية، وبالكاد يؤمنان قوتهما من الطعام والشراب، وقد أشرفا على خواتيم مشوارهما الجامعي، قبل العودة إلى لبنان». ويتابع «لقد راجعت العديد من المتصدين للشأن العام، من دون أن ألقى أي مساعدة للطالبين، حتى طرقت باب صديقي السيد ذو الفقار، الذي كان مسؤول الوحدة العسكرية المركزية في حينه. سريعاً، قدّم للشابين مبلغاً من المال، وطلب إرساله لهما على وجه السرعة، من دون أدنى معرفة مسبقة بهما. كانت القيمة الشرائية للمبلغ عالية في ذلك الوقت، حيث مكّنهما من إنجاز مشروعهما العلمي».
وفي نموذج إضافي، قام السيد ذو الفقار بدور مهم في الاستفادة من طاقة شاب مبدع ومتفوق أكاديمياً. منذ انتسابه إلى الجامعة، كان يواكب معه التفاصيل العلمية، بعناية تامة. فرح به كثيراً، إلى درجة الفخر، يوم اجتاز برنامجاً أكاديمياً عالمياً، وأرسل إليه هدية قيمة. وبكثير من الدعم المعنوي، حثّه على مواصلة مسيرته العلمية، مستشرفاً له مستقبلاً زاهراً. أثمرت تطلعات بدر الدين، وجهود هذا الشاب الطموح، فهو اليوم، إلى جانب تميزه في عمله الجهادي، أستاذ جامعي.
وبالعودة إلى محمد، الذي لا يزال يتابع دراسته الجامعية، منطلقاً من توجيهات القائد الشهيد وتحفيزه، فهو عاد والتقى صاحب «الذاكرة الحادة» قبل استشهاده، في مجالس خاصة عدة. سأله ذات مرة عن احتياجاته من مصادر ومراجع: «إذا لزمك دراسات وخرايط ميدانية من الشام، اعملي فيها (Outline)، كرمال نحصلها من الأصدقاء بالجيش السوري». وبموازاة كل ذلك، كان السيد ذو الفقار يثني على جهود محمد في المجال العلمي، التي يبذلها بالتوازي مع الواجبات والاستحقاقات الجهادية، فيشحذ همته بعبارات الدعم المعنوي، ليزداد عزماً ونشاطاً.
في اللقاء الأخير، كان الوداع مختلفاً. فبعد الاحتضان، وضع السيد ذو الفقار كفّيه على وجنتَي محمد، وبنظرة تختزل كل صنوف البأس، الممزوج بالحنان، همس له «إنت ما بينخاف عليك».