طوني عيسى – الجمهورية
في المبدأ، الحكومة العتيدة ستعيش 4 سنوات كاملة هي بالضبط عمر المجلس النيابي المنتخب، وهي أيضاً كل الفترة المتبقية من عهد الرئيس ميشال عون. إذاً، «ثلاثي الحكم»، الرئاسة والمجلس والحكومة، سيتكفَّل يداً بيد بإمرار أكثر الاستحقاقات خطورة. وفي الأعوام الـ4 الآتية سيتغيَّر الشرق الأوسط بكامله… ولبنان بالتأكيد. لذلك، هل يكون مستغرباً «الكباش» القاسي على تسمية الرئيس المكلّف وتركيبة الحكومة وبرنامجها الحقيقي لا الوهمي الذي يعبِّر عنه «بيان وزاري» ساذج في معظم الأحيان؟
جاء المجلس النيابي بغالبية حليفة لـ«حزب الله». والعهد أساساً هو عهد الرئيس الحليف لـ«الحزب» ميشال عون. ومن البديهي أن يكون «الحزب» راغباً في قيام حكومة يمتلك فيها أيضاً غالبية القرار، فتكتمل لديه دائرة القرار التشريعي والتنفيذي.
لذلك، هو في العمق يساوم الرئيس سعد الحريري على موقع رئاسة الحكومة: «تكونُ معنا أو لا تكون»! فالحريري بقي بعد الانتخابات النيابية الزعيم الأقوى داخل الطائفة السنّية، لكنه ليس الزعيم السنّي المطلق. كما أنّ صورة «المستقبل» كتيار عابر للطوائف تأثرت نسبيّاً.
وأساساً، كان الحريري وافق على التسوية الرئاسية في 2016، على رغم امتلاكه أكبر كتلة نيابية، لأنه كان يحتاج إلى استعادة حضوره السياسي داخلياً. واليوم، بعد تراجع أوراقه نيابياً وحكومياً، يبدو السبيل إلى أن يستعيد هوامش حركته السياسية من خلال أحد احتمالين:
إما أن يجدّد لـ«الحزب» التزامَه نهج التسوية بلا تردّد، وإما أن يَحدث انقلاب في موازين القوى إقليمياً وداخلياً يؤدّي إلى تراجع نفوذ إيران و«الحزب».
الواضح أنّ الولايات المتحدة تضغط، تزامناً مع الاستحقاقات اللبنانية، لإضعاف نفوذ إيران.
ومن المظاهر، عودة الضغط في الملف النووي، وتصعيد العقوبات على قيادات «حزب الله». وكذلك، الكلام المسرَّب عن اقتراب صدور الحكم عن المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ولكن، ما هو أكثر عمقاً يكمن في «الكباش» الروسي ـ الإيراني في سوريا. فالرئيس بشّار الأسد صمد نتيجة المظّلة الواقية التي قدّمتها روسيا في الدرجة الأولى، لا مظلّة إيران. ويبدو أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل توافقان على أن تكون «سوريا الأسد» نطاق نفوذ لموسكو لا لطهران. ومن هنا الضربات الإسرائيلية المتتالية للأهداف الإيرانية في سوريا، وصمت الأسد الواقع في مأزق الاختيار بين حليفين.
يعتقد مراقبون أنّ المرحلة المقبلة ستشهد تراجعاً في دور طهران الإقليمي. ويستدلّون إلى ذلك أيضاً بالنتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التشريعية في العراق. وهذا سينعكس على دور «حزب الله» في سوريا، وتالياً على نفوذه في لبنان.
والأرجح، لن ينحسر النفوذ الإيراني عن الشرق الأوسط تماماً، بل ستكون طهران واحدة من قوى إقليمية عدة لها دورها في المنطقة، كتركيا والسعودية ومصر. كما أنّ «حزب الله» لن يفقد نفوذه في الداخل اللبناني، ولكن سينشأ مقدارٌ أكبر من التوازن في السلطة.
على هذا الأساس، تبني قوى إقليمية ومحلية حساباتها. ففي الدعم السعودي للحريري والحلفاء عشية الانتخابات، واللقاء الجامع في منزل القائم بالأعمال وليد البخاري والكلام الذي أطلق خلاله، تَظهر مراهنة على إنشاء حدٍّ أدنى من التوازن في الحكومة والمجلس النيابي المقبلين.
في المقابل، يستفيد «حزب الله» من أوراق القوة التي يملكها حالياً ليضرب بيد من حديد. ولا شيء يمنعه من التشدّد في تسمية رئيس الحكومة وتشكيلتها وبرنامجها.
وبعدما ارتاح «الحزب» إلى أنّ ملفات السلاح والمشاركة في الحروب الإقليمية لن تُفتَح حتى إشعار آخر، بدأ يطالب بتحسين مشاركته كمّاً ونوعاً لتكون له غالبية القرار في الحكومة… أو على الأقل، ليقيم توازناً مقابل الضغط الأميركي لتقليص دوره فيها.
لا يريد «الحزب» حكومة «تُتْعِبُه» في السنوات الأربع الصعبة. ولا يريدها أن تشاكسَ على المجلس النيابي الذي يتمتع فيه بالغالبية. وهو يفضّل أن يكون الحريري رئيسها لتوفير التغطية السنّية والعربية الفضلى، لكنه سيضطر إلى تسمية آخر إذا اصطدم برفض الحريري لبرنامجه، نتيجة الضغط العربي والدولي والداخلي الذي يتعرّض له، بهدف فكّ ارتباطه عن مسار «الحزب».
وفي طليعة برنامج «الحزب»، فتحُ قنوات التواصل مكشوفة، ومن الباب العريض، بين بيروت ودمشق. ويقتضي ذلك، أن ينخرط أركان الحكم جميعاً في هذا المسار، وتزول وضعية التردّد التي سادت حتى اليوم.
وستكون المبرِّرات إلى ذلك كثيرة، تحت عنوان المصلحة اللبنانية: من ملف النازحين السوريين إلى التهريب والتعاون الأمني فالملفات الاقتصادية الساخنة كالكهرباء والنفط والترانزيت وتصريف المنتجات الصناعية والزراعية وإعادة إعمار سوريا. وكل ذلك يقتضي إعادة البحث في الاتّفاقات القائمة بين البلدَين.
لا يمكن للحكومة التي ستعيش 4 أعوام أن تتجاهل هذه المسائل الحيوية. ولذلك، وفي معزل عن التنافس على توزيع الوزارات بين القوى السياسية، النقاشُ الدائر اليوم بعيداً عن الأنظار يتناول مدى استعداد الحريري والقوى المصنّفة ضمن 14 آذار سابقاً («القوات اللبنانية» وجنبلاط خصوصاً) للموافقة على برنامج «الحزب»، بدءاً بالانفتاح على دمشق.
ويجزم المتابعون أن لا «حكومة جامعة» يمكن أن تقوم إذا لم يكن الانفتاح على الأسد في طليعة أهدافها، وأنّ القوى التي ستشارك فيها ستكون موافقة على ذلك بغالبية ساحقة… وإلّا فلتكن حكومة فريق واحد هو الذي انتصر في الانتخابات. وقد بادر عون إلى طرح الفكرة باكراً.
وهنا يجدر التذكير بأنّ المعترضين، في الحكومة الحالية، التزموا جانب الصمت تجاه الخطوات الانفتاحية التي جرت بين بيروت ودمشق على مستويات وزارية وإدارية وأمنية وعسكرية، كانت لها مبرّراتها. وهذا الصمت كان أحياناً أقرب إلى التنصّل.
وفي المجلس النيابي الجديد، ازداد في شكل ملموس حضورُ النواب الذين يُعتبرون من رموز «الحقبة السورية». وقد يكون دخول بعض هؤلاء وآخرين إلى الحكومة العتيدة، مدروساً لتسهيل فتح المسارات مع دمشق في المرحلة المقبلة.
في ظلّ المعطيات القائمة، يبدو حتمياً أنّ الحكومة العتيدة ستنفتح على دمشق الأسد. وليس في الأفق ما يبدّل الاتّجاه إلّا إذا حصل تبديل للتوازنات في سوريا، بحيث يصبح «الأسد الروسي» أقوى من «الأسد الإيراني». وهذا أمرٌ مرهون بعوامل مختلفة ويستهلك مزيداً من الوقت في سوريا ولبنان وكل دول المعاناة.
ولذلك، السؤال هو: ما هي اللحظة التي ستنطلق فيها عملية الانفتاح المنتظر على دمشق الأسد، وكيف سيكون «السيناريو»، ومَن سيتبرّع لإطلاقها وقيادتها بهدوء من داخل مؤسسات الحكم، بحيث لا تؤدي إلى انفجار داخلي لا يرغب فيه أحد؟