حسين أيوب – الأخبار
يترابط المشهد، من العراق إلى لبنان، مروراً بسوريا. بعد انتخابات 2009 في لبنان وانتخابات 2010 في العراق، أراد السعوديون في زمن «السين ـــ السين» أياد علاوي في بغداد وسعد الحريري في لبنان. تمسكت طهران بنوري المالكي. لاحقاً، استقال الحريري، فحل مكانه نجيب ميقاتي، خلافاً لإرادة دمشق والرياض، كما في حالة المالكي. في 2018، لن يكون تشكيل حكومة في العراق أو لبنان، بمعزل عن تطورات الإقليم.
كاد وليد البخاري يقولها: الحمدلله تحررنا. لكنه قالها بلغة واقعية معبرة جداً: ارتحنا من نادر.
ثلاث كلمات قالها القائم بالأعمال السعودي في لبنان تختزل كل التحليلات وحبر الكلام وهمس الصالونات المغلقة أو المعلنة. لا يخفي السعوديون، ومعهم الإماراتيون، فرحتهم بإطاحة سعد الحريري ابن عمته نادر الحريري. إطاحة ظالمة بكل معنى الكلمة لرئيس حكومة قرر أن يستجيب لإيحاءات الخارج. أن يُعرّي نفسه في السياسة. أن يُبعد الممسك بمعظم ملفات وريث رفيق الحريري، في الداخل والخارج، منذ 13 عاماً. العلاقة مع حزب الله والتيار الوطني الحر والرئيس نبيه بري وحدها تحتاج «جبلاً» في السياسة، فكيف إذا أضفت إليها ملفات سياسية واقتصادية تبدأ ولا تنتهي. لا يظلم سعد الحريري نفسه وحسب، بل يظلم نادر الحريري معه. ليس انتقاصاً من محمد منيمنة المشهود له بدقته وتفانيه، لكن نادر لم يكن مجرد «مدبر منزل ومواعيد».
منذ أن خرج سعد الحريري من أسره في الرياض، كان متيقناً أن ثمة فاتورة يتوجب عليه دفعها قريباً. ترك له الفرنسيون والأميركيون الهامش الذي طلبه. أن ينجز الانتخابات النيابية. وافقهم الرأي السعوديون والإماراتيون، ولذلك، قرروا عدم التدخل، بصورة فاضحة، طالما أن رجلهم الأول في لبنان، لم يقترب من بعض الخطوط الحمراء، وأبرزها ما يتصل بحزب الله. المداراة السياسية للحريري، استوجبت الإقفال الموقت لحنفية الدعم المالي عن بعض «المتمردين»، فكان أن دفع هؤلاء الثمن في الانتخابات وفي طليعتهم أشرف ريفي الذي بلغ به الأمر قبل أشهر من الانتخابات حد التلويح بتقديم 128 مرشحاً لكل المقاعد النيابية!
الحريري يستدين والسارقون لا يوفرون
غداة الانتخابات بدأت المراجعة. اكتشف الحريري هول ما فعل معظم الفريق الممسك بالانتخابات. الرجل يقترض نحو سبعين مليون دولار أميركي من أحد أبرز المصارف اللبنانية، ويحصّل مبالغ أخرى قد لا تتجاوز العشرة ملايين دولار، من «أصدقاء»، دعماً لمعركته الانتخابية، فماذا كانت النتيجة؟
لم تخل دائرة انتخابية من عورة تنظيمية ـــــ إدارية. للمرة الأولى، في تاريخ الانتخابات النيابية التي يشارك فيها تيار المستقبل منذ أكثر من عقدين من الزمن، ترتفع الشكوى من عدم وجود مندوبين للتيار في عشرات الأقلام. هذه عينة بسيطة. لكن ما هو الاستنتاج؟
يُصر البعض في «التيار» على التعامل مع سعد الحريري بصفته مجرد «بقرة حلوب». هو يستدين أموالاً ليفوز بانتخابات يعتقد أنها «مفصلية» و«تأسيسية»، وهؤلاء يسرقون ويحجبون ويتآمرون. العينات كثيرة. اتخذ الحريري قراره. لا بد من تدفيع كل من كان مسؤولاً عن هذه النتيجة الانتخابية. الأكيد، والأكيد جداً، أن لا علاقة لنادر الحريري بالمجريات الانتخابية. هي مسؤولية شقيقه أحمد بالدرجة الأولى ومعه ماكينة انتخابية وجسم حزبي ممتد من العرقوب حتى وادي خالد.
على مستوى التنظيم، أحدث الحريري الصدمة الإيجابية المطلوبة. الإطاحة برؤوس وتحسس هذا وذاك حد سيف القرارات الآتية، أصاب الجسم الحزبي وجمهور المناصرين، بحالة نشوة واسترخاء. غير أن للأمر تتمة. هنا، لا يبدو سعد الحريري جاهزاً للمحاسبة، وبالتالي، لا بد لمفعول النشوة أن يتبدد يوماً ما، وأن يكتشف الجمهور أن شيئاً لم يتغير، ولو أن الرجل مضى بقرارات، في الشكل، قد تمس بعض المحيطين به وبعض قطاعاته الحيوية، ومنها الإعلام.
يريدون «رأس نادر»
الخطأ الذي ارتكبه سعد الحريري عمداً أو عفواً، هو توقيت الانتخابات لقبول استقالة مدير مكتبه. لا يعني ذلك بأي حال من الأحوال تبرئة نادر الحريري. الأخير، يتحمل المسؤولية الأكبر سياسياً، من موقعه الذي جعله «مايسترو» أو «مهندس» الكثير من التحالفات واللوائح والأسماء، التي لم تغادر سقف خطاب البيال في الذكرى الـ13 لاستشهاد والده رفيق الحريري. في هذا الخطاب، قال سعد الحريري إننا سنخوض الانتخابات على لوائح لتيار المستقبل وبمرشحين من كل الطوائف في كل لبنان. كانت وظيفة نادر الحريري ترجمة تلك الكلمات بالسياسة ووظيفة التيار بماكينته وجسمه التنظيمي الترجمة على الأرض.
خطأ التوقيت لا يبدد حقيقة المضمون. ليس خافياً على أحد أن السعوديين والإماراتيين يريدون «رأس نادر». هم يحملونه مسؤولية مسار باكورته الصفقة الرئاسية، و«مسك ختامه» إدارته لمعركة إخراج ابن خاله من الأسر، إلى حد كسر كلمة محمد بن سلمان، مروراً بالحكومة وقانون الانتخاب والصياغات السياسية التي قرّبت تيار المستقبل من التيار الوطني الحر وأبعدته عن القوات اللبنانية.
التقت مراجعات سعد الحريري، شخصياً، وبلا وسطاء، مع كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنير (المهتم استثنائياً في هذه الأيام ببعض الملفات الحيوية في لبنان)، عند نقطة محورية، شكّلت الدافع لاتخاذ قرار إقصاء نادر الحريري. قامت واشنطن وباريس بواجباتهما مع «الرئيس المحرر». انتهت «فترة السماح» وعلى سعد الحريري الالتزام بتعهداته. بدا واضحاً أن رئيس الحكومة لا يريد أن يغرف من ماله الشخصي في أي استثمار سياسي في لبنان. الديون الشخصية تتراكم. كلّفته، وفي وقت قياسي، خسارة الكثير مما ورثه ـــــ وبقية إخوته طبعاً ـــــ من والده رفيق الحريري، بدءاً من «سعودي أوجيه» مروراً بـ«بنك البحر المتوسط»، وصولاً إلى الكثير من العقارات والشركات في الخارج.
في الشكل، يبدو سعد الحريري كأنه يريد استنساخ تجربة والده. مستشارون ومكاتب وأجهزة يوفرون لرفيق الحريري يومياً «داتا» ضخمة من المعلومات، وله وحده أن يتخذ القرارات. المصيبة مع سعد الحريري أنه لم يصبح جاهزاً لهذه المهمة. لم يتصالح مع الوقت وفضيلة الاستماع. مع ترتيب الملفات أو تنظيمها، فكيف سينظم حواره مع رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحر ورئيس مجلس النواب وحزب الله ووليد جنبلاط وسمير جعجع وعشرات القيادات؟ ليس المقصود بالسؤال الاستهانة بما اكتسب سعد الحريري ولا بما يحيط به من كفاءات، على قلتها، خصوصاً تلك «المعلنة» منها.
البصمة السعودية ـــــ الإماراتية، في قرار الحريري، لا تترك هامشاً لأي استنتاج آخر. لكن ماذا بعد طي صفحة نادر الحريري الذي عاد ليل أول من أمس إلى بيروت؟
يريد رئيس تيار المستقبل العودة إلى السراي الحكومي «مبارح قبل اليوم». اعتباراته سياسية ومالية وشخصية. ممره الإلزامي، من وجهة نظره، «التطبيع» مع المملكة وحاكمها الحقيقي محمد بن سلمان.
غرفة الرياض… وشيطنة حزب الله
في الشكل، قرر السعوديون أن ينال الحريري ما يريد. حتى الإفطار الذي كان يريد وليد البخاري أن يكون، غداً (السبت)، في السفارة السعودية، «جامعاً لكل الأطياف السنية في لبنان»، بمن فيهم بعض رموز 8 آذار، ممن فازوا في الانتخابات (فيصل كرامي وجهاد الصمد وعبد الرحيم مراد)، تحول إلى إفطار حصري «برعاية رئيس الحكومة»، يكاد يقتصر على رؤساء الحكومات (إذا لبوا كلهم الدعوة)، وعشرات المدعوين، ليس بينهم بالطبع مراد والصمد وكرامي!
أما في المضمون، فإن المكتوب يُقرَأُ من عنوانه. «العقوبات» التي قررت فرضها، «غرفة الرياض»، بشراكة إسرائيلية كاملة، لن تجعل حزب الله يعلن استسلامه، ولكنها خطوة لها سياقها. هل يستطيع الحريري أن يفسر للسعوديين والإماراتيين عجزه عن إدارة ظهره لحزب الله، لا بل حتمية شراكته مع تنظيم «إرهابي» بمعايير السعوديين والأميركيين والإسرائيليين (بالأمس، شملت عقوبات الأميركيين القيادي في حزب الله السيد عبدالله صفي الدين ورجل الأعمال اللبناني محمد بزي)؟ هل يستطيع الحريري أن يتجاهل أن هناك شريحة لا تقل عن أربعمئة ألف لبناني صوتوا فقط لمرشحي «حزب الله» وحلفائهم في معظم الدوائر، هل صار هؤلاء كلهم بمثابة «إرهابيين»؟
للحريري أن يطمئن أن قرار تسميته رئيساً للحكومة بغالبية موصوفة، صار في جيبته، قبل الانتخابات وبعدها. القرار لحزب الله ولو قرر ألا يسميه في استشارات التكليف. لكن هل يمكن أن تتألف حكومة إذا لم تكن محكومة بتوازنات الانتخابات، وأقلها أن ثلث النواب السُنّة، فازوا في لوائح معارضة لآل الحريري، ويحق لهم أن يتمثلوا في أية وزارة جديدة؟
وإذا كان حزب الله، وبلسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، أخذ على عاتقه شخصياً، مهمة محاربة الفساد كأولوية بعد الانتخابات، فإن أولى ترجماتها أن يتمثل بثلاثة حزبيين في الحكومة، وأن تسند إليهم وزارات حقيقية، وأن يكون في صلب كل التعيينات الإدارية مستقبلاً، فهل يمكن أن يخطر على بال سعد الحريري أن تتألف حكومة، من خارج هذه المعطيات؟
تفاهمات الحريري وجعجع لم تكتمل
وإذا كان الحريري، يقترب أكثر فأكثر، من سمير جعجع، الذي يكاد ينافسه في موقع «المعتمد الأول» سعودياً في لبنان، فإن محاولة «تربيطه» بشروط من نوع تلك التي أفاض سمير جعجع في عرضها، في سهرة «بيت الوسط» ليل الثلثاء – الأربعاء الماضي، لن تكون واقعية، خصوصاً ما يتصل منها بالحصص ونوعية الحقائب، فضلاً عن مضمون البيان الوزاري للحكومة الجديدة.
وإذا كان الحريري، يريد أن يحافظ على توليفة جديدة لعلاقته بالعهد، تقرّبه أكثر من العماد ميشال عون، وتوسّع الهامش بينه وبين جبران باسيل (التيار الوطني الحر)، لمصلحة التكيف أكثر مع جعجع وخياراته، في انتظار المزيد من الاختبارات، للتيار الحر ورئيسه، فإن ما أنجز في لقاء «بيت الوسط» بين الحريري وجعجع، لم يبلغ حدود التفاهم الكامل، في انتظار أجوبة متبادلة من الجانبين، ستكون رهن لقاءات لاحقة بينهما من جهة، وبين من سيؤمن التواصل الثنائي (غطاس خوري عن المستقبل وملحم رياشي عن القوات)، من جهة ثانية.
هنا تحديداً، يتبدى سؤال ميشال عون. لماذا بادر باتجاه الرئيس نبيه بري، اتصالاً ودعوة للغداء وتحديد موعد إفطار القصر الجمهوري هذه السنة في الثالث والعشرين من أيار (لضمان حضور بري بصفته رئيساً للمجلس)، وصولاً إلى القول إن الجبهة النيابية العريضة، التي تحدث عنها رئيس المجلس، يمكن أن تشكل رافعةً للعهد وقوة دفع له، خصوصاً في ضوء المضمر سياسياً، للمرحلة المقبلة، حكومة ومجلساً وسياسات؟
من يريد للعهد أن يتآكل رصيده؟
إذا نال سمير جعجع مراده حكومياً، يكون قد ربح أمام جمهوره، وإذا لم يتسنّ له ذلك، فلن تكون هناك حكومة من دونه، أقله من وجهة نظر السعوديين والإماراتيين. وهذه نقطة يدرك الحريري مغزاها ومعناها وتداعياتها، فهل يكون التكليف مقدمة للاعتكاف أو للاعتذار. وفي كلا الحالتين، وبدل أن تشكل حكومة ما بعد الانتخابات «وزارة العهد الأولى»، يقضم مسار التأليف من رصيد العهد ويهز صورته، خصوصاً في الشارع المسيحي، بما يؤدي إلى التأسيس لمسار لن يكون مستبعداً بعده، أن لا تقل كتلة القوات اللبنانية في انتخابات العام 2022، عن عشرين نائباً، على حساب كتلة العهد. وهل يمكن ذلك أن يمنع سمير جعجع من تقديم نفسه «الرئيس الماروني الأقوى والأول»، بالمنطق الذي أسّس له العهد الحالي منذ سنوات حتى الآن؟
هو التنازع ذاته يستمر منذ الصفقة الرئاسية حتى يومنا هذا. سعد الحريري يؤمن بالرهان على ميشال عون وجبران باسيل، وهو كان متفقاً في هذه النقطة تحديداً مع نادر الحريري ومع عمته بهية التي قالت إنه كان الأجدر بنا أن نضع يدنا بيد ميشال عون منذ لحظة عودته إلى لبنان عام 2005 بدل الرهان على أحزاب وشخصيات أثبتت التجارب على مدى 13 عاماً أنها مجرد «ديكورات».
للحريري أن يطمح ولجبران باسيل أن «يغرّد»، ولكن ها هو ميشال عون لا يخطئ خياراته. عينه على الضاحية الجنوبية. لا يريد لأحد أن يكسر كلمته هذه المرة: إيلي الفرزلي هو نائب رئيس المجلس النيابي. يريد أن يحتضن سعد الحريري، ولكنه لا يريد لأحد أن يسجل عليه أنه كان شريكاً في وسم أشرف ظاهرة عرفها لبنان والعرب بـ«الإرهاب».
يريد ميشال عون للتيار الحر أن يكون أكثر رحابةً وأن يستوعب من هم بداخله وأن يفتح النوافذ ويستوعب من خرجوا أو أُخرجوا، فـ«المنتصر»، كلما كان كبيراً كلما اتسعت المساحة للكبار من حوله وضاقت أمام «الصغار» و«المنتفعين» و«الوصوليين». لسان حاله أن ما حققه «التيار الحر» من فوز صاف (18 نائباً حزبياً) إنما جاء من رصيد صحنه السياسي وتضحياته منذ نهاية الثمانينات حتى يومنا هذا. البقية أتت من وهج عهد وتحالفات ومتمولين، وبالتالي، على الجميع، في التيار وخارجه، أن يتواضع. فليس بخطاب تهديد المسلمين «بزمن بشير (الجميل) وكميل (شمعون)»، تكتسب شارعاً، وتحوّله إلى وقود لحرب لا تبقي ولا تذر، وتكون النتيجة هجرة آخر المسيحيين الذين قرروا أن يقاوموا بالصمود في أرضهم وبلدهم.