وفيق إبراهيم – البناء
الإشارة الأميركية الواضحة حول ضرورة إبعاد إيران عن البحر الأبيض المتوسط، دليلٌ على استعار مرحلة الصراع على خطوط نقل الغاز من السواحل الشرقية لهذا البحر إلى العالم.
ورد هذا «التنبيه الصارم» في تصريح للرئيس الأميركي ترامب أبان محادثاته مع ضيفه الفرنسي ماكرون، في ما يمكن اعتباره إقراراً غربياً بنجاح الحلف السوري ـ الروسي ـ الإيراني وحزب الله بالربط بين بحري قزوين والمتوسط بفواصل برية عبر إيران والعراق وسورية ولبنان.
للتوضيح فإن الاسم القديم التاريخي للمتوسط هو بحر الروم بسبب هوية القوى اليونانية الإغريقية والرومانية التي كانت تسيطر عليه. بالإضافة إلى أنّ العرب كانوا يكرهون البحر ولم يكن الترك وصلوا منطقتنا آتين من هضبة منغوليا وتركمانستان. وكانت سورية منقسمة ولاءات استعمارية متعدّدة.
وللأمانة التاريخية أيضاً فإن الأمويين حرّروا «بحر الروم» في معاركهم ضد الرومان، محطمين القول المأثور الذي كان معمولاً به في ذلك الوقت: «البحر.. إياك والبحر، الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود».. وعندما عوتبوا على سيطرتهم على جزيرة قبرص، أجابوا باستراتيجية عميقة: وكيف نتركها وصياح الديكةِ فيها يُسمع في اللاذقية؟.. مطلقين على بحر الروم اسم بحر اللاذقية الذي ظل متمسكاً بهذا اللقب طيلة مرحلة السيطرة العربية على سواحله.
هناك توضيح إضافي وهي أنّ إيران موجودة عند شواطئ المتوسط عبر تحالفاتها وهي الدولة السورية عند سواحلها، وقاعدتان روسيتان في طرطوس وحميميم، و.. حزب الله المنتشر على طول سواحل لبنان للدفاع عنها ضد الاعتداءات البحرية الإسرائيلية.. وغيرها.
المنطقة إذاً وبعد تصريح ترامب تقع في قلب صراع بحري يشكّل بدوره امتداداً أصلياً للقتال البري العنيف بين القوى الكبرى في العالم والإقليم والمشرق العربي.. لمزيد من التحديد يمكن الجزم بأن هذا الصراع يشبه مرحلة الصراعات الدولية على موارد الطاقة، التي تجسّدت بالفحم الحجري في القرن 19 والنفط في القرن العشرين وبالغاز في القرن 21.. أما القوى المنخرطة عسكرياً في هذا الصراع فهي الولايات المتحدة ومعها أوروبا وروسيا وسورية وتركيا والعراق وإيران.. وحزب الله..
وهذا ليس مبالغة.. فالحزب تنظيم شعبي أخذ على عاتقه الدفاع عن لبنان في وجه العدو الإسرائيلي في مرحلة الدولة اللبنانية الضعيفة، مضطراً إلى التمدّد الإقليمي لمجابهة الإرهاب الذي يستهدف منطقة المشرق العربي بأسرها.. وعندما تبيّن له وجود تحالفات مموّهة بين هذا الإرهاب الوهابي ودول خليجية و«إسرائيل» برعاية أميركية ـ أوروبية، وجد نفسه منخرطاً في نظام تحالفات بدأت مع امتداده الطبيعي في سورية وإيران، وصولاً إلى الروس المتحفزين بدورهم للعودة إلى العالم من بوابته الرئيسية في الشرق الأوسط عند قلبه في سورية.
والحزب بما هو تنظيم تستند أيديولوجيته إلى الربط بين النفوذ الأميركي والكيان الإسرائيلي وطاعون الفكر الوهابي المتطرف، لا يبالي بالثروات المعدنية وموارد الطاقة، إلا لكونها من الضروريات التي تسهم في ازدهار الشعوب وتطور الدول. بمعنى أنه لا يمتلك مشروعاً خاصاً لوضع يده على مصادر الطاقة، كحال معظم المنتفعين والدول التي «تُهندس» حروبها على هدي آبار النفط والغاز والاستهلاك.. حزب الله «يهندس» حروبه على قياس مصالح شعبه وتقدّمه.
هذا ما وضع حزب الله في خانة القوى الأساسية المتصارعة في ميدان المشرق العربي وبشكل أكثر أهمية من كثير من الدول التي تزوّد الأميركيين والأوروبيين بآلاف مليارات الدولارات ليقاتلوا بها حزب الله وإيران وروسيا وهي قابعة ذليلة في قصور ألف ليلة وليلة.
نكتشف أنّ حزب الله «أصلي» في الصراع الإقليمي ووجد نفسه قوة كبرى لها وزنها في الصراع بين المحاور الأساسية المتقاتلة على «موارد الغاز». أما لجهة القوى المتقاتلة فهناك تركيا الحالمة بسبب موقعها الاستراتيجي، للعب دور محطة عالمية تستقبل الغاز من قطر عبر العراق وسورية عبر حدودها ومن لبنان وفلسطين المحتلة عبر المتوسط، ومن العراق من خلال الحدود المشتركة.. وتؤمن تركيا لهذه الخطوط مهام عدة. تسييل الغاز وإعادة تصديره إلى أوروبا عبر حدودها البرية والبحر الأسود والبحر المتوسط.
وهذا شكّل جزءاً من التباين المستجدّ بين أنقرة وواشنطن والذي يعود إلى أنّ الأميركيين لا يريدون لخطوط نقل الغاز أنّ تكتمل بشكل ينافسُ مخزونها الضخم من النفط والغاز الصخريين. أيّ أنها تفضل نشوب صراعات تسويقية إنتاجية بين «دول الغاز» لتستطيع تسويق مخزوناتها الضخمة..
ألا تنير هذه الخطط الأسباب التي أملت على الأتراك استعمال الإرهاب والإخوان المسلمين لتدمير الدولة الوطنية في سورية؟
ألا تفسّر هذه المشاريع مسارعة حزب الله لإرسال مجاهديه إلى الميدان السوري للقتال إلى جانب دولته؟
بالمقابل، يضيء هذا على مدى التورط التركي، الإسرائيلي الخليجي بالرعاية الأميركية، فاضحاً الأسباب التي أملت على أربعين دولة مشاركة في تدمير سورية؟ هناك أيضاً مشروع مصري مبني على اكتشافات حديثة لآبار غاز مصرية ضخمة ولعلها الأكبر في العالم.. ما أدى إلى انبثاق طموح مصري لتحويل «أم الدنيا» إلى محطة تسييل وتخزين وتسويق لغاز الشرق الأوسط نحو أوروبا من خلال سواحل مصر مع بحري المتوسط إلى أوروبا والأحمر إلى أفريقيا، وذلك عبر التعاون الغازي الذي بدأ بين مصر و«إسرائيل» بالصناعات المشتركة والتسويق ومع الأردن كمحطة مرور لخطوط الغاز الخليجية نحو مصر.
وهذا يشرح أيضاً أسباب تصاعد التناقضات المصرية ـ التركية حول قبرص وعلى مقربة من فوهات بنادق حزب الله.
كما يعطي تفسيراً عميقاً للدوافع التركية التي ذهبت لمحاولة السيطرة على مصر من خلال الإخوان المسلمين.. وفشلت لسببين: الشعب المصري.. الذي أسقطها بتحركاته، والدور الأميركي الذي غطَّى تحركاً لبعض تيارات الجيش المصري لمجابهة الإخوان المسلمين.
هذه هي المناخات التي سعى حزب الله إلى التعامل معها، في مهمة جهادية بالنسبة إليه ووطنية بالنسبة للبنانيين.. وهي مهمة الدفاع عن الشعب في وجه الإرهاب، وتحرير الأرض والاستمرار في الدفاع عنها أمام المطامع الإسرائيلية.. والدليل موجود في ما تفعله «إسرائيل» عند حدود لبنان البرية مع فلسطين المحتلة من تعدٍ ومحاولات اقتطاع أجزاء منها، بالإضافة إلى انتهاكاتها اليومية للأجواء اللبنانية.
ولا يمكن إقصاء محاولات «إسرائيل» للسطو على الغاز اللبنانية عند حدوده البحرية. وهي مزاعم تقف واشنطن منها موقف المتبني من وراء الستار الداعي إلى التعقل.. في نزاع يعرف الأميركيون أنه مفتعل لتأخير استثمار الغاز في لبنان لغايات لها علاقة بتسويق الغاز الإسرائيلي ومشاريع الولايات المتحدة بعرقلة خطوط نقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا عبر بلدان متنافسة أهمها مصر وتركيا وسورية.. أما «إسرائيل» فغير مقبولة بهذا الصدد.
حزب الله إذاً هو في قلب معركة الغاز في «بحر اللاذقية».. وكما أصاب بارجة إسرائيلية كانت تزهو بحجمها قبالة سواحل لبنان في 2006 وأغرقها، يؤدي اليوم دوراً تاريخياً يبدأ من تأكيد إلغاء الصفة «الرومية» على البحر المتوسط.. وهذا يعني الحدّ من الهيمنة الأميركية البحرية في المنطقة التي بدأت تشعُر بوجود منافسين لها على طول الساحل الشرقي للمنطقة في سورية ولبنان وبدعم روسي وإيراني.
ولروسيا مصلحة كبرى في هذا الصراع.. فهل يمكن نسيان أنها الدولة الأولى في إنتاج الغاز في العالم؟ وأنّ المشاريع الأميركية في الشرق الأوسط ترتكز على أساس محاصرة الإنتاج الروسي وعدم السماح بتسويقه من أجل جعل أوروبا تعتمد على النفط والغاز الصخريين الأميركيين؟
..إنها حروب الطاقة وحزب الله جزء منها من زاوية الدفاع عن ثروات السوريين واللبنانيين، متحالفاً مع روسيا وإيران لإنقاذ المنطقة من المشروع الغربي المتدثّر بعباءة محمد بن سلمان وأقرانه الخليجيين الذين ينثرون المال للمحافظة على عروشهم معتقلين شعوبهم في إطار القرون الوسطى وعصور الظلام.