صحيفة الأخبار
من دون قرار قضائي، وتحت مسمّى «أمر بالتحصيل»، تمعن السلطة السياسيّة وأجهزتها الأمنيّة في قمع الحق في التظاهر والاعتراض. «بدعة» جديدة اعتمدتها الأجهزة منذ 2015، وتستمرّ في «ترسيخ» تطبيقها بوجه المعترضين، وهذه المرة لمن تجرّأوا على التظاهر في عوكر أواخر عام 2017 احتجاجاً على القرار الأميركي بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل
بدل «نفقات معالجة» و«أصفاد أميريّة مفقودة» وسواها من «الأضرار»… تنوي قوى الأمن الداخلي تحصيل مبلغ مالي كبير يفوق الـ25 مليون ليرة لمصلحة الخزينة العامة من عشرة شبان شاركوا في تظاهرة 10 كانون الأول 2017 أمام السفارة الأميركية في عوكر، تنديداً بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. التظاهرة التي تخلّلتها أعمال شغب، واستخدمت فيها قوى الأمن الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين لم تنتهِ مفاعيلها إلى اليوم. المبالغ المالية التي «قدّرتها» القوى الأمنية لنفسها، بلا قرار قضائي، تفوق قدرة «المكلّفين»، وبينهم طلاب جامعات كانت قد برّأت بعضهم المحكمة العسكرية من تهمة «أعمال الشغب» في التظاهرة المذكورة، ودفّعت بعضهم غرامات لا تفوق «قيمتها الثلاثمئة ألف ليرة» بحسب المحامية المكلّفة من قبلهم فداء عبد الفتاح.
وعمدت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بتاريخ 27 آب 2018، بتوقيع من المدير العام اللواء عماد عثمان، إلى إصدار أمر أول بتحصيل مبلغ مالي قيمته 14 مليوناً و94 ألف ليرة من عشرة مشاركين في تظاهرة عوكر، بينهم لبنانيون وفلسطينيون وسوري. حددت المديرية المبلغ بأنه بدل «تعطيل عناصر قوى أمن داخلي عن العمل بمسؤوليتكم عن أعمال الشغب الحاصلة أمام السفارة الأميركية في عوكر». علماً أن ستة من هؤلاء كانوا قد مثلوا أمام المحكمة العسكرية في التهمة عينها، أي «المشاركة في أعمال الشغب والاعتداء على عناصر قوى الأمن والأملاك العامة والخاصة»، وصدر حكم بتبرئتهم (في 15 كانون الأول 2017)، فيما دفع بعضهم غرامات مالية وأخلي سبيله، ما عدا قاصراً جرى تحويله إلى محكمة الأحداث. إلّا أن الأحكام الصادرة عن المحكمة العسكرية حينها، لم تمنع قوى الأمن الداخلي من إصدار أمر التحصيل الأول بعد ثمانية أشهر من قرار المحكمة. ثم عادت المديرية لتصدر أمراً ثانياً في 3 كانون الأول 2018، بتحصيل مبلغ قيمته 11 مليوناً و209 آلاف ليرة لبنانية بحق أربعة أشخاص من أصل العشرة الذين شملهم التحصيل الأول. ويمثّل أمر التحصيل الثاني «نفقات معالجة وبدل تعطيل عناصر قوى أمن داخلي عن العمل وتصليح آلية عسكرية وثمن أعتدة أميريّة متلَفة وأكلاف تصليحها مع ثمن ذخيرة مستهلكة وأصفاد أميريّة مفقودة بمسؤوليتكم عن اعتداء 10 كانون الأول 2017».
بحسب أحد المكلَّفين التحصيل الثاني، عمدت يوم أمس جهة قالت في اتصال معه إنها «ماليّة بعبدا وطالبتني بغرامة ماليّة قيمتها مليونان و803 آلاف ليرة». قدّر «المكلّف» أن المبلغ المذكور يساوي «ما يجب على أحدنا نحن الأربعة دفعه من الـ11 مليوناً»، وقد اشترطت الجهة المتصلة «أن نجمع كلّنا المبلغ كاملاً ونسدّده في مالية بعبدا، وإلّا فسنكون بدءاً من 12 شباط المقبل معرّضين للتوقيف ولزيادة 2 في المئة عن كل شهر تأخير».
المحامية عبد الفتاح توكّلت عن خمسة «مكلّفين» من أصل عشرة بأمر التحصيل الأول، وتقدّمت في تشرين الأول الماضي باعتراض أمام القاضي المالي في صيدا جورج سالم، ضمن المهلة المحدّدة، أي خلال شهرين من تاريخ التبليغ. وأكّدت لـ«الأخبار» أن آلية الاعتراض «غير مفهومة، وقد اجتهدنا بالاعتراض أمام القاضي المالي، لكون التحصيل يعود إلى الخزينة»، ولا سيّما أن الأمر صادر أيضاً عن وزارة الداخليّة، ويمكن الاعتراض أمام القاضي المنفرد الجزائي. وبحسب عبد الفتاح، إن الاعتراض حصل «أمام القاضي المالي في صيدا، لأن معظم المكلفين من هناك، علماً أن بينهم طلاب جامعات، وهذه الرسوم مجحفة بحقهم، وليس بمقدورهم جميعاً دفع رسوم التكليف مرة جديدة للاعتراض على أمر التحصيل الثاني».
مرجع قضائي: لا يمكن لقوى الأمن أن تحدّد من تلقاء نفسها التعويض بعيداً عن القضاء
أمر التحصيل الصادر عن قوى الأمن ذيّل بملحوظة لأصحاب العلاقة، مفادها أنه «يحق لكم الاعتراض أمام المحكمة العدلية الصالحة في محل إقامتكم خلال شهرين من تاريخ التبليغ، وإن الاعتراض لا يوقف التنفيذ إلا إذا قررت المحكمة ذلك جزئياً أو كلياً». وعليه، فإن القاضي المالي في صيدا جورج سالم، الذي قدّم أمامه الاعتراض على أمر التحصيل الأول ويفترض أنه بلّغ المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي به، مطالب باتخاذ قرار وقف التنفيذ. وكذلك قبول الاعتراض الذي تنوي عبد الفتاح تقديمه أمامه على أمر التحصيل الثاني ووقف تنفيذه. وبحسب مرجع قضائي، إن «القضاة المنفردين مطالبون بالتحلّي بالجرأة لاتخاذ القرارات بوقف تنفيذ أي أمر تحصيل مشابه، وكذلك على محكمة الاستئناف أن تحذو حذوهم لتبنّي وقف التنفيذ، إذا قررت الجهات التي تصدر الأمر بالتحصيل الاستئناف أمامها». ويرى المرجع نفسه «أن هذه المسألة بدعة جديدة لمنع التظاهر، إذ لا يمكن الجهة التي تعتبر نفسها متضرّرة وتطالب بالتعويض، أي قوى الأمن في هذه الحالة، أن تكون الحكم والحاكم وتحدّد من تلقاء نفسها قيمة التعويض من دون أن يفصل القضاء بينها وبين من تطالبهم باسترداد ما تعتبره حقّها».