نبيل هيثم – الجمهورية
سؤالٌ يفرض نفسَه في موازاة انسداد الأفق الحكومي، ومعه كل الأفق السياسي: هل ثمّة إمكانية بعد للعثور على بابِ انفراج، أم أنّ لبنان ذاهبٌ الى الاشتباك الكبير، أو بالأحرى الى الأزمة الكبرى؟ في الصالونات السياسية تسليمٌ عامّ بالفشل الذريع في إنجاب حكومة، يوشك تعطيلُ بلوغها أن يدخلَ في شهره التاسع!
في صالونات المعنيين مباشرةً بالملف الحكومي، هروبٌ واضح من هذا الاستحقاق، وتقاذفٌ مريب لمسؤولية التعطيل!
في الصالونات الاقتصادية والمالية، تتكدّس التحذيرات من تجاوز الخطوط الحمر، وبلوغ الاوضاع مستوى الخط الاكبر، وحديث عن دراسات سوداوية لبعض الخبراء في هذا المجال، وضعت في أيدي مسؤولين كبار في الدولة، الّا أنّ المريب في الأمر، هو صمُّ الآذان حيالها والتجاهلُ المتعمّد لمضامينها حول وضع خطير يأخذ البلد سريعاً الى الهاوية.
في الصالونات العسكرية والأمنية، قلقٌ يتزايد من الخطر الاسرائيلي المتفاقم، والذي تزرع اسرائيل نطفته على الحدود، عبر إعادة بناء الجدار الاسمتني، أو ما يُسمى «جدار الحرب» قبالة مستوطنة «مسكاف عام»، في خطوة مستفِزّة، ثمّة خشية لدى مراجع مسؤولة من أن تكون هذه الخطوة الاسرائيلية مندرجة في سياق «أجندة عدوانية» أعدّتها إسرائيل، ومتدرّجة من صواريخ المطار، الى الأنفاق، وصولاً الى معاودة بناء الجدار في أرض متنازَع عليها مع لبنان، وكأنّ إسرائيل تحضّر الأجواءَ لأمرٍ ما قبل الانتخابات الاسرائيلية المبكرة المقرَّرة في نيسان المقبل. وتقترن هذه الخشية بأسئلة عمّا جاء يفعله مساعدُ وزير الخارجية الأميركية دايفيد هيل في لبنان في هذا الوقت بالذات؟
في الصالونات الشعبية، منطقُ المسيحي «الله ينجّينا»، ومنطقُ المسلم «لا حول ولا قوة إلّا بالله»؛ الناس محبوسة في قمقم الازمة، تنتظر ما تسميها بالعامية «البلاوي الزرقاء» لتتساقط على رؤوس اللبنانيين.
في الصالونات الدبلوماسية، أسئلة متراكمة عن سرّ التعطيل المتحكِّم بالتأليف، لعلّ أكثرَها أهمية، وأشدَّها استغراباً، هو: لماذا «يكربج» اللبنانيون انفسَهم؟ ويتوازى ذلك مع حديث عن «دردشات» متعدّدة الجنسيات لا تستبطن خطواتٍ ملموسة على أرض الواقع، او مبادراتٍ جدّية وضاغطة، توحي بأنّ ثمّة تعديلاً طرأ على اجندة اولويات الغرب والاوروبيين بشكل عام، والتي أسقطت الملف اللبناني من خانتها، ولم تبقِه فيها حتى كمجرّد بند ثانوي، بل هو كلام محدود، حدودُه ضيّقة مرسومة ضمن الاطار اللفظي، وليس اوسع من ذلك، ويتوزّع بين:
– تحذير فرنسي يرد تباعاً من مستويات فرنسية متعددة، من عواقب شديدة الخطورة على لبنان، قد تصل الى حدّ الانهيار، إن بقي هذا التعطيل المتبادَل هو اللغة السائدة على خط التأليف، مقرون، أي التحذير، بنصائح للبنانيين بالتعجيل في بناء سلطتهم التنفيذية والشروع بالاصلاحات المطلوبة؛ فـ«سيدر» يُحتضر، وما ينتظره اللبنانيون منه يوشك أن يذوب، وتذهب فوائدُه في اتجاهات اخرى ليست بعيدة جغرافياً من لبنان، وصولاً الى المغرب وأفريقيا، وبالتالي كل الآمال التي يعلّقها لبنان على هذا المؤتمر تسقط، ما يعني أنه قد لا ينال هذا البلد من «سيدر» حتى الفتات.
– تمنيات بريطانية، وأيضاً المانية، متتالية على «الأصدقاء اللبنانيين» بالدخول فوراً الى حلول لمعضلتهم السياسية، تبعاً للضرورات اللبنانية التي تحتّم بلوغَها، خصوصاً في ظلّ الكمّ الهائل من التحديات التي يواجهها لبنان خصوصاً على المستوى الاقتصادي، وتبعاً أيضاً للتحوّلات والمتغيّرات الاقليمية والدولية، التي تقع كل دول منطقة الشرق الاوسط في صلبها، ولبنان ضمنها حتماً.
علماً انّ الدبلوماسية البريطانية في لبنان، عاكفة على رصد مجريات الاستحقاق الحكومي منذ لحظاته الأولى، شأنها في ذلك، شأن كل نظيراتها من البعثات العاملة في لبنان.
وما يلفت الانتباه في هذا السياق، هو انّ بعض اللبنانيين دفعتهم حماستهم، وولاءاتهم السياسية، وحتى مرجعياتهم، الى اعتماد تلك البعثات كحائط مبكى، ومراكز للشكوى على بعضهم البعض!
– إنكفاء سعودي واضح عن الملف اللبناني، وهو امر يعكس، أو بمعنى أدق، يبرّر الانكفاء الخليجي الكامل، ما خلا الحرص على بعض الشكليات الدبلوماسية المرتبطة بالعلاقات الثنائية مع لبنان، ولكن دون الغوص في أمور اخرى تلامس جوهرَ علاقة بعض هذه الدول بأطراف لبنانيين، أو محاولة الانتقال بها، ممّا يُسمّى «الفتور» الحاصل في بعضها حالياً، الى سابق عهدها من الحميمية والاحتضان المباشر.
– حضور مصري على كلّ الخطوط الداخلية، يستمزج الآراء في كل اتّجاه، من موقع «الصديق» الساعي الى بناء مساحات مشترَكة بين اللبنانيين؛ الدبلوماسية المصرية تمتلك صورة واضحة عن تعقيدات الملف الحكومي من ألفها الى يأئها، ولكن ليس في يدها أن تفعل شيئاً، فلا الداخل اللبناني متجاوب مع النصائح، ولا الصورة الاقليمية والدولية تسمح بنسج خيوط مبادرة «يرعاها الكبار»، تُلزم اللبنانيين بالتوافق والتفاهم. الدبلوماسية المصرية ترى أنّ الفرصة ما زالت سانحة لأن يبادر اللبنانيون الى ترتيب بيتهم السياسي وصيانة استقرارهم الداخلي، وكلما تأخّر الوقت، قد تتعقّد الامور اكثر، وثمّة مَن يقول هنا إنّ استمرار هذا التأخير قد بضع الملف اللبناني في مرتبة متدنّية من الاهتمام، وخصوصاً أنّ الاولوية في هذه المرحلة معطاة للملف السوري، وكيفية إعادة ربط خيوط العلاقة العربية مع دمشق، وهذا الربط لن يكون بين ليلة وضحاها، بل قد يتطلب اسابيع وربما اشهراً. فهل يستطيع لبنان أن يحتمل كل هذا الوقت من الشلل والتعطيل؟
– رصد روسي لمجريات الداخل اللبناني، والدبلوماسية الروسية تؤكد أن لا نية أو رغبة لدى موسكو بالدخول مباشرة على الخط اللبناني؛ «حدود مقاربتنا للملف اللبناني لا تتجاوز حدَّ الاقتراب من المَسّ بسيادة لبنان، نحن نتحدث مع الجميع، ونقدّم النصائح، ونعبّر عن دعمنا الكامل للبنان ووقوفنا الى جانبه وحرصنا على أمنه واستقراره، وأن يستعيدَ لبنان حيوية مؤسساته كافة، وفي مقدمها تشكيل حكومته وبناء سلطته السياسية والتنفيذية، ولكننا لسنا في موقع المبادر الى التدخّل، انسجاماً مع قرارنا بعدم التدخل في شأنٍ يعني اللبنانيين وحدهم، والذي من خلاله نؤكد على رفض أن يتدخّل أيُّ طرف خارجي في الشأن اللبناني».
– إنكفاء أميركي واضح عن الملف الحكومي، ولم تُفلح تمنّيات شخصيات لبنانية صديقة لبعض المرجعيات – يقال إنها تقوم بزيارات الى واشنطن بين حين وآخر – في تعديل وجهة الموقف الأميركي نحو الحضور بفعالية، أو بالاحرى رمي ثقلها في هذا الملف. زوار واشنطن يذهبون اليها آملين، فيعودون منها خائبين وخاليي الوفاض. وخلاصة ما يسمعونه أنّ لبنان ليس في صلب اهتمام ادارة دونالد ترامب، الى حدٍّ بلغ توصيف احدهم للموقف الاميركي حدّ القول:
«الأميركيون مش شايفين لبنان». إلّا انّ التجاهل الاميركي للبنان، وكما ينقل هؤلاء الزوار، يستثني الجيش اللبناني كمؤسسة تثق بها واشنطن وتعوّل عليها وتنظر بعين التقدير لها، وقرار واشنطن أن تستمرَّ في دعمها التقليدي لها، وفق ما هو ممكن.
وأما الاساس في التوجّه الأميركي حيال لبنان، فهو «حزب الله» الذي تضعه الادارة هدفاً للتصويب الدائم عليه بوصفه عنصراً قلقاً لها، وللمنطقة، ولإسرائيل بالدرجة الأولى.
وهنا لا يمكن إغفالُ توقّع المزيد من الخطوات الاميركية المعلنة وغير المعلنة لتطويق الحزب وإضعافه بالعقوبات وغير ذلك. وليس مستبعداً في هذا السياق العودة مجدداً الى مقولة «حكومة بلا حزب الله»، وهذا معناه صبّ المزيد من الزيت على النار الداخلية.
ما تقدّمَ، يشي بأنّ الأفقَ السياسي والحكومي مسدودٌ بإحكام، وعلى ما يقول احد المراجع، فإنّ الذهنية المتحكّمة بمسار التأليف بالشروط التي تراكمها، ومنطق المراهقة السياسية التي تحاول فرض قاعدة «الغالب والمغلوب»، والهلوسات المرتبطة ببعض الأحلام، التي تصرّ على الـ«أنا او لا احد» عطلت بالكامل لغة المواعيد لولادة الحكومة، وخلقت وضعاً داخلياً متأزّماً يسير بخطوات ثابتة نحو الأزمة الكبرى، التي قد يسقط فيها لبنان في أيّ لحظة.
والخشية الاكبر، يضيف المرجع المذكور، أن يكون هناك مَن يدفع قصداً ام عن غير قصد، الى هذه الأزمة، او بالاحرى الى «الاشتباك الكبير»، الذي – إن اشتعل – سيعيد بعثرة كل الاوراق، وقد تصعب معه أيُّ محاولة لاحتوائه، وتدارك تبعاته، وسيكون من الصعب ايضاً تقدير حجم التداعيات، ليس على الملف الحكومي الذي سيكون مع ما قد يستجدّ، ملفاً أقلّ من ثانوي وهامشي، بل على الصيغة الداخلية برمتها، وأصل النظام.