لم أعتد يوماً البوحَ بما أسمعه في جلسات رئيس مجلس النوّاب نبيه بري، ولا الحديث عما اشاهده، أو اعلمه، أو الإفصاح عن مهام كلّفني بها. لكن، بعد تزايد التحليلات، والتأويلات، والاستنتاجات، في التصويب على برّي ومحاولة تفريغ موقفه بشأن عدم دعوة سوريا الى حضور القمّة الاقتصاديّة العربيّة المرتقبة في بيروت، أجد نفسي اليوم، من دون إطّلاع ولا سؤال أحد، مُضطراً لإستحضار بعض المحطّات التي شاركت فيها منذ عام 2011، من خلال دور قمت به، وأتمنى ان يعذرني بري هذه المرة، على كشف جزء بسيط من خصوصيات مهامنا.
كان شكلُ دورنا إزاء سوريا إعلاميا”، وجوهره سياسياً، بعدما كلّفني به رئيس حركة “أمل”، فجهدت للنجاح في المهمة على مدى اكثر من خمس سنوات متتالية، في مواكبة الأزمة السوريّة عن قُرب، “من دمشق”. كان هذا عنوان البرنامج التلفزيوني الذي قدّمته على شاشة “أن بي أن”، إسمٌ على مسمى، رغم تنقّلي بين معظم المحافظات السورية في عز سنوات الأزمة الميدانية.
بدأت المشوار في شهر نيسان من العام المذكور، فدخلت العاصمةَ السوريّة من دون طلب دمشقي، بل بناء على قرار إتُّخذ في عين التينة، ونفّذته كاملاً بكل مندرجاته. كان القرار سياسياً، لمهمة سياسيّة، في دور سياسي، يندرجون جميعهم ضمن استراتيجيّة حركة “أمل”. كنّا نؤدي دوراً يتجاوز شكليّات الاعلام التقليدي. لم يكن إهتمامنا الاّ بكيفيّة مؤازرة سوريا، في الانحياز لدمشق. هذا ما عبّرت عنه عام 2012 خلال مقابلة اجرتها معي جريدة “النهار”، التي وضعت يومها عنواناً للمقابلة: عباس ضاهر: نعم نحن منحازون لسوريا. تلك كانت توجيهات نبيه بري.
في شهر نيسان عام2011، لم يكن ربيع سوريا كعادته. دخلت الى وزارة الاعلام التي تقع على اوتوستراد المزّة، للقاء الوزير محسن بلال، الذي بادرني بالسؤال، بعد الترحيب الحارّ، في اول لقاء معه: ماذا تريد ان تفعل؟ جاوبته: جئنا نتابع طريقنا الى جانب سوريا. كلّفنا بري بذلك، هي مؤازرة لكم لمواجهة أزمة قد تكون طويلة. لم يكن وزير الاعلام السوري يومها يتوقّع أن يطول عمر تلك الازمة في بلاده. لكنه، شكرنا وبادلنا الود، واعطانا “ورقة تجوّل اعلامي” تسمح لنا بالتصوير في كل مساحة سوريا. من هنا كانت بداية المشوار الطويل الذي قادنا الى تغطية الحرب على الجبهات السوريّة المشتعلة من درعا، الى ريف دمشق، وحمص، وارياف حماه، واللاذقية، وحلب، ومناطق أخرى، بعد تأسيس مكتب للقناة في سوريا، والارتكاز على برنامج أسبوعي سمّيناه “من دمشق”، إستضفت فيه السياسيين، وشخصيات اعلامية، وفنية، وإجتماعية، وإقتصادية، وروحية، وعسكرية. فترسّخت علاقات ثقة بيننا وبين تلك المكوّنات من الشعب السوري، وكبار المسؤولين والفاعلين، ولا تزال حيّة في تواصل مفتوح، لم ينقطع حتى الساعة.
اذكر أنني كنت اجريت الحلقة الأولى، بين شارعي الحريقة والحميدية، حيث الاكتظاظ الشعبي، فتدافع السوريّون للمشاركة معي، من دون تنسيق الضيوف مسبقاً، وتوالت التصريحات الوطنية السوريّة بإعلانها الصمود والالتزام بحماية البلد، ودعم الجيش.
في اليوم الذي تلا ليلة بثّ الحلقة، كما هي من دون مونتاج، حضرت الى عين التينة عند الساعة السادسة عصرا، فبادرني بري بعد السلام، على الفور، بالسؤال: هل كانت المقابلات التي سمعتها خلال الحلقة في دمشق عفوية؟ جاوبته: بكل تأكيد. فقال لي: الله يطمّنك بالخير. حينها استفاض رئيس المجلس النيابي، في شرح أبعاد المؤامرة على سوريا، واوصاني بمتابعة مهمّتي الاعلاميّة على اكمل وجه، من دون ان أكترث بأي انتقاد بسبب انحيازنا لسوريا. بالنسبة اليه، هي قلب العروبة، وعلاقته معها منذ اكثر من اربعين عاما شهدت تباينات أحياناً حول تفاصيل، لم تؤثّر على طبيعة الترابط الاستراتيجي العميق، بين مسار واهداف حركة “امل” و دمشق.
هكذا، كنّا في قناة “أن بي أن”، من السبّاقين في مواكبة الازمة السوريّة، فمضيت في مشوار طويل، كنت اواظب فيه على زيارة المحافظات السوريّة، لتقديم البرنامج الذي نال نسبة عالية من المشاهدين في العالم العربي، وإستند اليه المغتربون العرب في كل مساحات العالم، خصوصاً بعد منع القنوات السوريّة وتلك التي تدور في فلكها السياسي، من البثّ على الاقمار الاصطناعية، وفي ظل حرب ضخمة ضد دمشق، شنّتها امبراطوريات اعلامية تابعة لعواصم عربية وغربية. كان ينقص السوريين الدعم الاعلامي في مواجهة تلك الامبراطوريات. فتطوّعنا فخورين، للإنخراط في عملية الدفاع عن سوريا.
صرت أحضر في كل اسبوع الى عين التينة، لأضع رئيس المجلس النيابي في اجواء مهمتنا في سوريا. كنت اسمع ذات التوجيهات، والثناء، لأمضي بزخم اكبر في متابعة المهمة.
لم يقتصر الامر على برنامج، بل جنّدنا كل برامجنا ونشرات الأخبار لمتابعة الازمة السورية.
كنت اتجوّل ما بين بيروت ودمشق، وحمص، والساحل، ومحافظات أخرى، في سنوات تزايدت فيها الاخطار على الطرقات، وكثرت التهديدات، بعد ان أرسلت المجموعات الارهابيّة مجموعة رسائل على وسائل التواصل الاجتماعي توعّدوا فيها بإستهدافنا، وتوّجوها بقرصنة الفايسبوك الخاص بي.
لكن جميع تلك المخاطر والتهديدات لم تفرض تراجعنا، لأننا كنّا ننفذ قراراً سياسياً، سعينا للنجاح في تطبيقه، مهما كلّف الأمر. وهكذا كان، بدليل الصدى الإيجابي الذي لمسته عند السوريين، وحفلات التكريم التي أقاموها لنا، فتسلّمت الدروع والميداليات التقديرية.
شاركت في “الفاعليات” التي نظّمها السوريون في عدد من المحافظات، وخطبت في الحاضرين في اكثر من محافظة، بلغة إكتسبتها من مدرسة حركة “أمل”. تلك اللغة نفسها، التي ارساها الامام موسى الصدر بشأن أهمية العلاقة مع سوريا. وهي التي ثبّتها نبيه بري ايضاً، في توجيهاته السياسية، بعدما خاض مواجهات ميدانية وسياسية في الحرب والسلم، لعدم السماح بميل البوصلة عن اتجاهاتها العربية.
لن اتطرّق الى ادوار وزراء حركة “أمل” في الانحياز الى جانب سوريا، وخصوصا عندما كان وزير الخارجية والمغتربين عدنان منصور المحسوب على رئيس المجلس يؤدي دوره في الدفاع عنها في كل المحافل الخارجيّة. بل تقتصر اشارتي الآن الى مهمّة سياسية بقالب اعلامي، جرى تكليفي بها، ونلت خلالها تقدير وثناء رئيس حركة “أمل” على حُسن التصرف.
تطول مساحات الحكايا فيها، وتتعدد المحطّات التي عايشتها في سنوات خمس على هذا الصعيد، وهي تحتاج الى سلسلة مقالات للحديث عنها، رغم اني اتحفّظ عن ذكر تفاصيل جوهرية تندرج تحت عنوان قاله لنا الرئيس نبيه بري يوماً: خذوا علماً ألاّ بديل لنا من سوريا، ونفخر بذلك.
- النشرة