طوني عيسى – الجمهورية
كان يمكن لبنان أن يتحمّل المماطلة في عملية تأليف الحكومة، لولا أنه مقبل على 3 أخطار تُنذر بكارثة: العقوبات الأميركية التي يزداد خناقها، تبلور ملامح الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي، وتهديد إسرائيل بضربات عسكرية في قلب بيروت وخارجها. وثمّة مَن يعتقد أنّ قيام إسرائيل بتنفيذ تهديداتها سيكون مدمِّراً للبنان، إذ سيعيده عشرات السنين إلى الوراء، بحيث يصبح الانهيار أقربَ إلى التحقُّق. ولكن، يسأل المعنيون، هل حصل الإسرائيليون فعلاً على ضوء أخضر دولي، وأميركي تحديداً، لتوجيه هذه الضربات؟ وهل سيستطيع الروس والأروبيون تجنّبَ الصدمة؟
على مدى السنوات الـ5 الأخيرة، حرصت إسرائيل على توجيه ضربات محدّدة لمواقع عسكرية في الداخل السوري، ومنها العديد قرب دمشق ومطار المزّة. وأحياناً، استخدمت المجال الجوي اللبناني لتنفيذ غاراتها. وشملت الضرباتُ أحياناً أهدافاً داخل الأراضي اللبنانية، في مناطق حدودية.
المستهدَف كان غالباً المستودعات والثكن العسكرية والشحنات المحمّلة أسلحة إيرانية غير تقليدية، سواء كانت منشورة في الداخل السوري، لمصلحة النظام، أو منقولة إلى «حزب الله» في لبنان. ولطالما تكتّم الإسرائيليون في تحديد طبيعة المواقع التي يستهدفونها.
لكنّ شباط الفائت كان مفصلياً في هذا الملف. ففيما كان الإسرائيليون يشنّون هجمات واسعة النطاق في سوريا على أساس عدم حصول ردّ من الجانب السوري، كما جرت العادة، تمّ إسقاط إحدى مقاتلاتهم من طراز «إف 16».
وخلال مؤتمر الأمن في ميونيخ، في تلك الفترة، عرض نتنياهو على الحضور ما وصفه بأنه طائرة تجسّس إيرانية بلا طيار أسقطتها إسرائيل فوق مجالها الجوي.
وعلى الأثر، بدأ الإسرائيليون يطالبون علناً بإبعاد أيّ مواقع إيرانية عن الحدود. وخلال زيارته واشنطن، بعد أيام، طلب نتنياهو من الرئيس دونالد ترامب تغطيةً أميركية لتوجيه ضربة ضد أهداف إيرانية في لبنان.
ووفق ما تردّد من مصادر متابعة آنذاك، فإنّ إدارة ترامب منحت نتنياهو تغطية لتنفيذ ضربات محدّدة، لا شاملة، وضد مواقع لـ«حزب الله» في لبنان، إذا كان الإسرائيليون يرون فيها تهديداً استراتيجياً لأمنهم، على غرار الضربات التي تشنّها إسرائيل في الداخل السوري. إلاّ أنّ هذا الأمر قوبل برفض أوروبي وروسي شديد.
ودعم الأميركيون طلب نتنياهو إبعاد المواقع الإيرانية 100 كيلومتر عن خط الحدود الفاصل في مرتفعات الجولان. وبوساطة روسية، تمّ التوصل إلى تفاهم مع طهران في هذا الشأن. وعبّرت موسكو عن اقتناعها بأنّ كل ما عبرّت عنه من مخاوف أمنية في الجولان قد تمَّت إزالته. وتالياً، لا مبرّر لأيّ عملية أمنية يقوم بها الإسرائيليون ضد مواقع إيرانية واقعة خارج المنطقة المتّفَق عليها.
ولكن، في الموازاة، بدا الإسرائيليون في صدد توجيه اتّهاماتهم نحو لبنان. ووفق عدد من الخبراء، تقتضي الخطة الإسرائيلية إبعادَ الخطر الإيراني الآتي من لبنان، بعدما تمّ إبعادُه في سوريا. وترجمة ذلك هي منع وجود أسلحة إيرانية ضمن مسافة يعتبرها الإسرائيليون «آمنة». ومن هنا أهمية الملف الذي يطرحونه اليوم، أي ملف الصواريخ «الدقيقة».
ويخشى الإسرائيليون أن تكون إيران قادرة على استخدام ورقة الصواريخ في أيّ لحظة، بحيث تكون قادرة على تعطيل الحياة في إسرائيل في أيّ لحظة، وفي أيٍّ من المدن الأساسية، وضرب المرافق العامة والبنى التحتية.
ومن هنا جاءت حملة نتنياهو الحالية، والتي بدأها في أيلول الفائت، عندما رفع مجموعة من الخرائط من على منبر الأمم المتحدة في نيويورك، وقال أمام زعماء العالم: «حزب الله» يقيم قرب مطار بيروت- وبرعاية إيرانية- 3 مصانع مخصصة لتحويل الصورايخ غير الدقيقة التوجّه إلى صواريخ دقيقة، بحيث يمكنها أن تصيب أيّ هدف في إسرائيل بفارق خطأ لا يتجاوز الـ10 أمتار.
وبعد ذلك، أضاف وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان إلى ما قاله نتنياهو: «هناك أيضاً منشآت إيرانية أخرى في بيروت، وسنكشف أمكنتها في الوقت المناسب». وحذّر الإسرائيليون «حزب الله» من أنه إذا لم يُزِل هذه المصانع، فإنهم سيتكفّلون بالأمر. وهذا تهديد صريح بتوجيه ضربات عسكرية إلى لبنان، ما يثير هواجس استعادة مناخات الحرب المدمّرة في 2006.
ولكن، هل تسمح واشنطن للإسرائيليين بتنفيذ ضربات يمكن أن تهزّ استقرار لبنان كما لم يسبق أن اهتزّ في أيِّ يوم مضى، خصوصاً عندما يتمّ الحديث عن أهداف محاذية للمطار الدولي ومناطق أخرى في العاصمة؟
حتى اليوم، يحرص الأميركيون على دعم الاستقرار اللبناني بكل مقوّماته. ولكن، ثمّة مَن يخشى أن تستغلّ إسرائيل مرحلة الضغوط على إيران و»حزب الله» لافتعال ضربة في الوقت الضائع. ولذلك، يتحرّك لبنان أيضاً على المستويَين الروسي والفرنسي.
وقد بدا سفير روسيا ألكسندر زاسبكين الأكثرَ حماسةً بين سائر الديبلوماسيين الذين لبّوا دعوة «الاستكشاف الميداني» التي وجّهها وزير الخارجية جبران باسيل، الشهر الفائت، لإثبات أن لا مصانع للصواريخ يقيمها «حزب الله» في محيط مطار بيروت. فقد كان يترجَّل من الباص متقدّماً زملاءَه، حتى ظهَر وكأنه ليس مَن لائحة المدعوّين، بل هو شريك في التنظيم.
وعلى الخط الفرنسي، تلقّى الجانب اللبناني خلال القمة الفرنكوفونية الأخيرة في يريفان تحذيراً واضحاً من مغبة إعطاء إسرائيل ذريعة لتوجيه ضربة إلى لبنان لا يمكنه إطلاقاً أن يتحمل تبعاتها في ظل ظروفه الصعبة اقتصادياً وسياسياً.
وعلى الأرجح، وضع نتنياهو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في هذه الأجواء خلال الاحتفال بمئوية الحرب الأولى، علماً أنّ الموفد الفرنسي أوريليان لو شوفالييه كان في بيروت ينقل رسالة التهديد التي حملها من إسرائيل قبل أيام. وقد يتاح لفرنسا أن ترسل موفداً لها إلى طهران لنقل هذا المناخ، تجنباً للأسوأ.
المعلومات المتوافرة تشير إلى أنّ اتصالاتٍ روسية وأوروبية جرت مع إدارة ترامب بهدف إقناعها بلجم إسرائيل ومنعها من القيام بأيّ مغامرة عسكرية ضد لبنان، لأنّ استقرار هذا البلد بات شديد الاهتزاز سياسياً واقتصادياً، وهو لا يتحمّل أيّ انهيار يقود إلى كوارث اجتماعية وربما إلى اهتزاز الوضع الأمني. وهذا ما سيؤدي إلى حدوث تداعيات يصعب تداركُها، بما في ذلك انعكاس ذلك على مصير النازحين السوريين.
فكل المساعي التي يقودها الأوروبيون والمجتمع الدولي تهدف إلى صون وضع النازحين في البلدان التي يقيمون فيها، إلى أن تتوافر لهم ظروف العودة. وأيّ انهيار اقتصادي- أمني من شأنه أن يخلق موجات من النازحين تتدفّق في اتّجاه أوروبا وتتسبّب بمشكلات جديدة.
وينصبّ اهتمام الأوروبيين على إقناع واشنطن بالسعي لدى إسرائيل إلى عدم استغلال العقوبات التي تعمل لتطبيقها ضد إيران و«حزب الله» من أجل تفجير الوضع في لبنان لأنه يعيش اليوم ظروفاً أصعب من تلك التي مرّ بها خلال حرب تموز 2006. فحينذاك، لم تكن الحرب السورية قد اندلعت، وكان لبنان يتمتع بمناعة اقتصادية وسياسية أفضل.