علي حيدر – الأخبار
لم تكتفِ فصائل المقاومة الفلسطينية بإحباط اعتداء جديد، حاولت إحدى الوحدات الخاصة في جيش العدو تنفيذه في قطاع غزة، وبقتل ضابط رفيع برتبة مقدم وجرح آخر، بل انتقلت إلى جبي أثمان إضافية في أمن المستوطنين وحياة الجنود الصهاينة. المقاومة عاقبت جيش العدو على اختراقه القطاع واستشهاد عدد من الكوادر والمقاومين، عبر ردّ صاروخي، حملت معه رسائل ردع وقوة أكدت بها الإرادة الصلبة في الرد على أي اعتداء يستهدف القطاع ومقاومته.
في المقابل، لم يقتصر الإخفاق في مهمة جيش العدو على سقوط قتلى وجرحى خلالها، بل استدرج أيضاً تساقط مئات الصواريخ على مستوطنات «غلاف غزة» وسقوط مزيد من الخسائر البشرية في صفوف جنود العدو ومستوطنيه. من جهة أخرى، كشفت العملية الفاشلة عن حقيقة مفهوم التهدئة بالمعايير الإسرائيلية، الذي هو استمرار للعدوان بأساليب وتكتيكات جديدة، والاحتفاظ بـ«حق» المبادرة إلى خطوات عملانية تتطلبها مصالحها الأمنية.
بعيداً عن مدى صدق الرواية الإسرائيلية لأهداف العملية الفاشلة، لا يغير ذلك توصيف الاعتداء، كون المهمة التي كانت تنفذها القوة الإسرائيلية تحمل طابعاً استخبارياً، كما ادعى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي العميد رونين منليس، لموقع «يديعوت أحرونوت»، بالقول إنه «لم يكن هدف العملية تصفية أو اختطاف… وعمليات من هذا النوع تُدرس بعمق وتبقى غالباً سرية». مع ذلك، كان لافتاً اضطرار جيش العدو إلى توضيح هذا البعد العملياتي، وهي خطوة غير مألوفة، لكن يبدو أن القيادة السياسية أرادت أن تبرر هذه العملية في ظل مساعي التهدئة، وتحديداً للطرف المصري الذي يقود الوساطة بين المقاومة والعدو. ويعني هذا التبرير أن تل أبيب ترى هذا المستوى من الاعتداءات «حقاً حصرياً» لها، حتى وإن كان هناك اتفاق على التهدئة!
في هذا الإطار، رأى العديد من المعلقين الإسرائيليين أن من المستبعد جداً أن يصادق رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على عملية اغتيال أو خطف في هذا التوقيت السياسي الذي يسعى فيه بنفسه إلى محاولة التوصل إلى تهدئة، وهو الخيار الذي اضطر إلى العمل عليه بعد فشل محاولاته المتكررة لفرض المعادلة التي كان يسعى إليها مع غزة، الأمر الذي وضعه بين خيار التصعيد الواسع أو السعي إلى تهدئة ما، فاختار الخيار الثاني، لأكثر من اعتبار وأساساً لإدراكه حجم الخسائر التي سيتلقاها وغياب أي أفق لسيناريو فتح مواجهة واسعة من القطاع، انطلاقاً من تعذر الحسم العسكري مع المقاومة الفلسطينية، وغياب جواب حاسم عن سؤال «اليوم الذي يلي»، إضافة إلى أولويات التفرغ للجبهة الشمالية التي تُجمع عليها القيادتان السياسية والأمنية في تل أبيب، لأنها «التهديد الأكثر خطورة وتعقيداً» على واقع الأمن القومي الإسرائيلي ومستقبله.
وسبق لنتنياهو أن أجمل رؤيته إزاء غزة، خلال وجوده في العاصمة الفرنسية باريس قبل أيام، بالقول: «لا يوجد حل سياسي مع قطاع غزة»، مُعلناً بذل «كل ما أستطيع من أجل منع حرب لا طائل منها». وأضاف: «كل حرب ستجبي ضحايا، وأنا لا أخشى من الحرب إذا كانت ضرورية، ولكنني سأحاول منعها إذا لم تكن كذلك». وحول الخيارات الماثلة أمام إسرائيل، رأى أنه لا يستطيع عقد اتفاق سياسي مع جهة تدعو أيديولوجيتها إلى تدمير الكيان، لكن «الأمر الذي أستطيع أن أفعله هو الاحتلال والمكوث هناك، أو ضربات قاسية جداً». وتابع أن هناك أنظمة لا تستطيع التوصل معها إلى حلول سياسية وسطية، ولذلك «ينبغي أن تعمل في مقابلهم. وفي غزة هذا هو الوضع. وطالما أن حماس هي التي تسيطر، فإن الحل الأفضل هو إمكانية التوصل معهم إلى تهدئة». هكذا، تتضح معالم الإرباك في تل أبيب: لا يريدون حرباً… ولم ينجحوا في ردع المقاومة، ولم تفلح مساعي التهدئة حتى الآن، في حين أن ضغط المستوطنين على قيادتهم قائمٌ لمنعهم من التسليم بالواقع القائم.
كذلك، لا يستطيع نتنياهو وبقية الطاقم القيادي ذي الصلة المباشرة التنصّل من مفاعيل الضربة التي تلقاها، وهو ما دفعه إلى اختصار زيارته لفرنسا والعودة إلى الكيان الإسرائيلي لمتابعة تطور الأوضاع. وما يُعزز هذا الطابع أن هذا المستوى من العمليات الخاصة تصدّق عليه القيادة العليا، وهو ما أكده المتحدث باسم الجيش أيضاً، بالقول: «أي عملية عسكرية كهذه… تستعرض أمام القيادة السياسية والعسكرية، وتقودها قيادة رفيعة جداً. وفي هذه الحالة، رئيس أركان الجيش يقود العملية العسكرية مباشرة، ومعاً مع قائد شعبة الاستخبارات العسكرية وضباط كبار آخرين».
على خط موازٍ، كشف ردّ فصائل المقاومة مجدداً عن تصميمها على حماية شعبها وعزمها على منع العدو من فرض معادلات ميدانية، وأنها لن تقبل تقييد إرادتها بالمواجهة تحت عناوين المساعي للتهدئة أو حتى لكونها حريصة على تجنّب نشوب حرب مع العدو في هذه المرحلة. وبرؤية أبعد مدى، تتجاوز الرسائل الصاروخية للمقاومة أبعادها الميدانية وصولاً إلى مواجهة مخطط التطبيع و«صفقة القرن» التي تهدف إلى تصفية القضية، إذ أكد حجم الرد الصاروخي للمقاومة حرصها على أن يكون بالمستوى الذي يعمق قوة الردع الفلسطينية، ويرفع مستوى الإرباك في مؤسسة القرار لدى العدو حول المدى الذي يمكن أن تبلغه المقاومة في مواجهة أي تمادٍ إسرائيلي. كذلك استطاعت المقاومة أن تفرض على العدو ساحة اشتباك يجب عليه التكيّف معها، عبر التزامه ضوابط محدَّدة، رغم الصواريخ التي تتساقط على مستوطنات «غلاف غزة». وهكذا، تحوَّل العمق الإسرائيلي إلى أداة ردع إضافية تتصل بمستويات محددة من الاعتداءات. والمؤكد حتى الآن أن هذه الجولة التي بدأت بمحاولة تنفيذ مهمة حساسة، من قوة خاصة في الجيش، خلصت إلى فشل ذريع ومُكلف، تبعه تساقط مئات الصواريخ على المستوطنات بدلاً من تعزيز عناصر القدرة والمواجهة كما سعت إلى ذلك المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
صحيح أن الصواريخ كانت تتساقط على «غلاف غزة» وأبعد قليلاً، لكن الرسائل التي كانت تحملها وصلت مباشرة إلى غرفة عمليات قيادة العدو، التي كان فيها نتنياهو، حيث أجرى مشاورات أمنية استمرت نحو ثلاث ساعات، في مبنى «الكرياه» في تل أبيب. ومع أن مصدراً سياسياً أكد أن المشاورات خلصت إلى اتخاذ قرارات عملانية، لكنه لم يكشف عن طبيعتها والمدى الذي يمكن أن تبلغه إسرائيل. والمؤكد أن مشهد النيران التي تلتهم منشآت إسرائيلية في المستوطنات واستهداف حافلة جنود، وطابع العقاب على مبادرة عملانية إسرائيلية، سوف تحفر عميقاً في الذاكرة الإسرائيلية، وتسهم في تعميق الإرباك لدى قادة العدو، وتُضيّق عليهم خياراتهم في مواجهة خيار الصمود والمقاومة في غزة وكل فلسطين.