وليد شرارة – الأخبار
منذ أربع وثلاثين سنة، تحتجز الدولة الفرنسية في سجونها أحد الرموز المضيئة لما سمي يوما جيل التلاحم اللبناني ــــ الفلسطيني، المقاوم جورج ابراهيم عبد الله. هو أيضاً نموذج للوفاء والثبات، وهما الميزتان اللتان تسمان كبار المناضلين المدافعين عن قضايا التحرر والعدالة عبر العالم. بقي عبد الله وفياً للمبادئ التي دفعته يوماً للانضمام الى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي تحرير الأرض السليبة من النهر الى البحر، كجزء لا يتجزأ من النضال العربي من أجل التحرر من الهيمنة الإمبريالية الغربية، ومن أجل الوحدة والعدالة الاجتماعية، التي اعتبرت الاشتراكية كنظام سياسي واقتصادي الصيغة الأمثل لتحقيقها. بقي وفياً كذلك للتضحيات الهائلة التي قدمها رفاق دربه وأبناء شعبه من اللبنانيين والفلسطينيين والعرب، آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين والمشردين، من أجل تحقيق الأهداف إياها. وقد ثبت في وجه التهديد والوعيد، وعروض إطلاق سراحه في مقابل «الاعتذار» عما يتهم أنه قام به، وفي وجه عملية القتل البطيء التي يتعرض لها عبر استمرار احتجازه من قبل الدولة الفرنسية، صاحبة التاريخ الدامي مع العرب والأفارقة، من المليون ونصف مليون شهيد في الجزائر الى المشاركة المباشرة في تدمير ليبيا وسوريا أخيراً. وفاؤه وثباته هما السببان الرئيسيان لاستمرار اعتقاله، بإصرار من الصهاينة والأميركيين، من قبل قوة استعمارية هرمة، لكنها لا تزال تعاني من حنين ماضوي الى العظمة، وخاصة أن الصراع الذي تطوع للمشاركة فيه لا تزال تدور رحاه في منطقتنا.
وراء العدو في كل مكان
لجأت الثورة الفلسطينية المعاصرة بعد فترة وجيزة من انطلاقتها في 1/1/1965 الى تكتيك العمليات الخارجية ضد رموز العدو الصهيوني ومصالحه في العالم، وكذلك الى خطف الطائرات. برزت آنذاك وجهتا نظر بالنسبة الى هذا التكتيك. الأولى، التي عبّرت عنها قيادة فتح، التي كانت مسؤولة عن قسم من هذه العمليات باسم منظمة أيلول الأسود أو أسماء أخرى، رأت أن هذا الأسلوب يهدف ــــ بالإضافة الى توجيه ضربات للعدو، وفي حالة خطف الطائرات محاولة إجباره على إطلاق المعتقلين لديه ــــ إلى تذكير العالم، وخاصة دول الغرب، بوجود الشعب الفلسطيني وبضرورة الاعتراف بحقوقه المشروعة. فالنكبة لم تفض فقط الى طرد غالبية الشعب الفلسطيني من أرضه، بل هو طرد أيضاً من وعي «العالم» وذاكرته، وبات يشار إليه في قرارات الأمم المتحدة مثلاً، التعبير المؤسساتي عن المجتمع الدولي العتيد، بكلمة «اللاجئين». العمليات الخارجية شكلت بالنسبة إلى قيادة فتح نوعاً من الإعلام المسلح يساهم الى جانب الكفاح المسلح داخل فلسطين وأشكال النضال الأخرى بفرض وجود الشعب الفلسطيني على الخريطة السياسية. لذلك ارتأت قيادة فتح في عام 1974, بعد خطاب الشهيد ياسر عرفات في الأمم المتحدة، ضرورة وقف هذه العمليات لأنها استنفدت أغراضها. وجهة النظر الأخرى ــــ التي تبنتها الجبهة الشعبية وتحديداً أحد أبرز وألمع قادتها الشهيد وديع حداد ــــ أصرّت على أن المعركة مع إسرائيل هي حرب مباشرة مع الإمبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة وأن ساحتها هي، بالإضافة إلى فلسطين، بلدان المعسكر المعادي بأسره حيث يحق للمقاومة الفلسطينية القيام بعمليات عسكرية، بالتحالف مع المجموعات الثورية الأممية التي كانت ناشطة داخل البلدان الغربية، حتى تتوقف هذه الأخيرة عن دعم الكيان الصهيوني. قررت الجبهة الشعبية وقف العمليات الخارجية عام 1976 واختلف معها وديع حداد وغادرها واستمر بتنظيم العمليات حتى استشهاده مسموماً على يد الموساد الإسرائيلي عام 1978.
حافز آخر ــــ غير العلاقة العضوية بين إسرائيل والقوى الإمبريالية ــــ برّر برأي البعض ضرورة اللجوء الى عمليات خارجية ضد العدو هو قيام استخباراته بشن حرب اغتيالات حقيقية ضد قادة ومناضلين فلسطينيين وعرب في الدول الغربية. أبرز الشهداء الذين اغتالهم الموساد في فرنسا هم: باسل الكبيسي (عراقي)، محمد بوضيا (جزائري)، محمود الهمشري، محمود صالح، فضل داني وعاطف بسيسو. في إيطاليا، اغتال العدو وائل زعيتر وماجد أبو شرار وإسماعيل درويش. في أثينا، اغتال منذر أبو غزالة. وفي قبرص، اغتال مروان كيالي ومحمد بحيص وسلطان التميمي. بعض هؤلاء الشهداء قتلوا بعد توقف العمليات الخارجية. اللافت أن الموساد لم يتعرض من قبل أجهزة وقضاء الدول الديموقراطية «العريقة» التي نفذت عمليات الاغتيال على أراضيها لأي مضايقة فعلية، ولم تفض عمليات التحقيق التي أجرتها تلك السلطات الى توجيه الاتهام الى أي كان بالمسؤولية عنها، بل قامت السلطات الفرنسية مثلاً بمصادرة كتاب صدر عام 1979 للمفكر والمستشرق فانسان مونتي (Vincent Monteil) عن جرائم إسرائيل في فرنسا بعد طباعته وبداية بيعه في الأسواق. الرد على جرائم الموساد وتواطؤ الأجهزة الغربية معه كان دافعاً إضافياً لتوجيه ضربات لرموز العدو ومصالحه في الخارج.
العمليات التي نفذتها الفصائل الثورية المسلحة اللبنانية، التي اتهم جورج عبد الله بقيادتها من قبل السلطات الفرنسية، نُفِّذ أغلبها عام 1982، أبرزها اغتيال المسؤول في الاستخبارات الأميركية تشارلز راي في شهر كانون الثاني، ومسؤول في الموساد هو ياكوف برسيمنتوف في شهر نيسان. لم تؤدِّ هذه العمليات الى مقتل أي مدني لأن من نفذها أطلق النار عن قرب على الشخص المستهدف وحتى في حالة برسيمنتوف، الذي قتل خلال نزهته مع زوجته وابنه، لم يتعرض أحدهما للأذى. وبمعزل عن الموافقة أو الاعتراض على صحة الخط السياسي الذي يتبنى القيام بعمليات عسكرية خارج ساحات الصراع الرئيسية مع العدو وهي فلسطين المحتلة أو الجنوب اللبناني أيام الاحتلال، فإن الهجمات التي شنتها الفصائل الثورية استهدفت حصراً مسؤولين أمنيين مشاركين بالحرب ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني.
اعتقل جورج عبد الله عام 1984 بتهمة المسؤولية عن هجمات الفصائل وبعدما قضى 15 عاماً في السجن، كان من الممكن أن يطلق سراحه حسب القانون الفرنسي، لكن السلطات الفرنسية لم تفعل. الضغوط الأميركية والإسرائيلية قامت بدور رئيسي في هذا الأمر، لكنْ هناك عامل آخر مرتبط بالطبيعة الاستعمارية العميقة للجمهورية الفرنسية، وخاصة في تعاطيها مع العرب والسكان ذوي الأصول العربية داخل حدودها. قيام مناضل عربي باستهداف أميركيين وإسرائيليين على الأراضي الفرنسية هو جريمة لا تغتفر تستحق برأي قادتها وقسم واسع من نخبها عقاباً نموذجياً يتجاوز جميع قوانينها. قوة استعمارية هرمة لا تزال تتلذذ بممارسة غيّها ضد مناضل كبير. لقد جاوز الظالمون المدى…
الرفض الأميركي
من مقابلة المحامي جاك فرجيس مع مجلة Afrique Asie الشهرية (شباط 2011):
«السبب الحقيقي لاستمرار سجن جورج عبدالله هو الرفض الأميركي القطعي لإطلاق سراحه وانصياع فرنسا له. الحكومة الفرنسية لا تستمع إلى حججنا القانونية. وحده الرأي العام اللبناني يستطيع انتزاع، وأقول انتزاع، تحريره… تبادل الأسرى الرهائن أمر شائع وجورج عبدالله رهينة. في آذار 1985 اختطفت الفصائل الثورية المسلحة اللبنانية جيل بيرول المستشار الثقافي الفرنسي في مدينة طرابلس. وبعد مفاوضات، بواسطة السفارة الجزائرية في بيروت، تم الاتفاق على تحريره وتحرير عبدالله. حررت الفصائل بيرول لكن فرنسا خانت تعهدها بإطلاق عبدالله. لقد عارضت الولايات المتحدة ذلك ومارس ويليام كيسي، مدير الاستخبارات الأميركية آنذاك، ضغوطاً على وزير العدل الأسبق روبير باندرو لكي يحاكم جورج عبدالله ويدان». وكان المحامي جاك فرجيس قد ختم مرافعته الدفاعية عن عبدالله عام 2007 بمطالبة القضاء الفرنسي «بإفهام أصدقائنا الأميركيين المتعجرفين بأن فرنسا ليست عاهرة لديهم».
«أزمة ضمير» مدير الاستخبارات
«لديّ أزمة ضمير مع قضية عبد الله. لقد خانت فرنسا الوعد الذي قطعته… اليوم، بعد مرور حوالى ثلاثين سنة على الأفعال المنسوبة لعبد الله، أرى أن من غير الطبيعي والفظيع استمرار اعتقال جورج عبد الله. أعتبر أن من حقه أن يتبنى العمليات التي قامت بها الفصائل الثورية المسلحة اللبنانية باعتبارها عمليات مقاومة. من الممكن أن نختلف مع رأيه، لكن هذا شأن آخر. علينا أن نتذكر السياق العام للأحداث ومجازر صبرا وشاتيلا أيضاً التي لم يعاقب مرتكبوها. اليوم، تُبقي فرنسا على هذا الرجل خلف القضبان بينما تطلق سراح موريس بابون (مسؤول أمني فرنسي تعاون مع النازيين خلال احتلالهم لفرنسا)… إنها سياسة انتقامية من الدولة ضد عبد الله. هو حصل على رأي إيجابي لمصلحة إطلاق سراحه، لكن باريس لا تزال ترفض إرضاءً لحلفائها. أنا أطالب القضاء بالاستماع إليّ حول هذا الموضوع».
تصريح إيف بوني المدير الأسبق للاستخبارات الفرنسية لصحيفة La Depeche du Midi في 7/1/2012 عن قضية جورج عبد الله