صحيفة الأخبار
بعد أيام على «التعاون» التركي – السعودي في كشف ملابسات قضية جمال خاشقجي، بدا المستفيد الأول محمد بن سلمان، وهو المتهم الذي يسعى لقطع كل الخيوط التي تصل إليه، تمهيداً لصياغة رواية تحدد «كبش الفداء»، بمباركة أميركية. لكن «الصفقة» إن تمت، فلا بد أن تكون بموافقة تركية أيضاً، على أن تحفظ «سر» الملف، إلى حين
منذ بدء زيارة مبعوث الرئيس دونالد ترامب لـ«حل» قضية خاشقجي، بما يحفظ المصالح الأميركية، وزير الخارجية، مايك بومبيو، لكل من الرياض وأنقرة، بدا التعاون التركي – السعودي في أوضح صوره، لكن بما يسمح لولي العهد، محمد بن سلمان، الخروج من «قفص الاتهام»، وترك ملف خاشقجي مفتوحاً من دون تحديد «صاحب الأمر» بالاغتيال. على أن تبقى «الحقيقة»، في درج تُمسك الولايات المتحدة وتركيا مفاتيحه، ما بدأ ينعكس في حلّ ملفات عالقة بين البلدين.
مسرحية «التحقيقات» و«التسريبات» منذ موافقة أنقرة على «التعاون» مع الرياض، باتت مريبة. لا نتيجة حتى الآن في غير مصلحة ابن سلمان، الذي تمكّن من مسح آثار الجريمة في القنصلية، وإعادة فريق الاغتيال إلى بلاده (خرج منذ اليوم الأول)، بالإضافة إلى «الشاهد» الوحيد على الجريمة، القنصل، الذي غادر أول من أمس إلى الرياض. ومن خلال مسار التحقيق الذي تجريه أنقرة منذ أسبوعين، يبدو أن تركيا تتعاون مع الرياض للخروج من الأزمة، إذ دخل المحققون الأتراك مبنى القنصلية السعودية للمرة الثانية أمس (بعد 15 يوماً على اختفاء خاشقجي)، من دون أن يخرجوا بأي نتيجة، بعد تفتيش استمر 9 ساعات أول من أمس، جرى بعدما سُمح لمسؤولي القنصلية إدخال كميات كبيرة من مواد التنظيف قبل ساعات. كذلك دخلوا منزل القنصل محمد العتيبي، القريب من القنصلية، أمس، لكن بعد 24 ساعة من منعهم من ذلك، ومغادرة الأخير البلاد إلى الرياض، رغم تأكيد «التسريبات» أن عملية اغتيال خاشقجي جرت أمام عينيه وفي مكتبه، بحسب ما يؤكد مسؤولون أتراك، بناءً على تسجيلات من داخل القنصلية أثناء وجود خاشقجي فيها، يزعمون أنها موجودة بحوزة السلطات التركية، ووسائل إعلامية أيضاً، كصحيفة «يني شفق»، كما أعلنت أمس.
ما سبق يعني احتمالين لا ثالث لهما، إما أن تركيا لا تملك أي تسجيلات، وأن كل ما خرج منها من «تسريبات» لوسائل الإعلام مجرد «تكهنات» (كما يقول السعوديون) تسعى من خلالها للَيّ ذراع حكام الرياض، من خلال إثارة الرأي العام العالمي، الذي يضغط سياسياً واقتصادياً لدفعها إلى الاعتراف، وإذا ما صحّ ذلك، فإنه يَكشف مدى هشاشة الأمن التركي في كشف ملابسات جريمة حصلت في مكان وزمان محددين، أو أن سلطات أنقرة، التي تعتمد أسلوب «التسريبات» غير المؤكدة رسمياً، وتأكيد «التعاون» مع الرياض كما نقل عنهم بومبيو، أمس، قد خضعت لرغبة أميركية في تبرئة ابن سلمان، سواء بالترغيب أو بالترهيب. لكن الاحتمال الأخير بات مستبعداً بعد صفقة تسليم القس الأميركي، أندرو برانسون، التي قد تدفع واشنطن إلى رفع عقوبات فرضت على تركيا، بحسب ما أكد بومبيو أمس، الذي حث أنقرة على إطلاق سراح المواطن والعالم الأميركي – التركي السابق في وكالة «ناسا»، من بين محتجزين آخرين.
في أي حال، سواء أكانت أنقرة تمتلك أدلة «حقيقة» على اغتيال خاشقجي داخل قنصلية بلاده، أم لا، لا مبرر لحجب «الحقيقة» إن وُجدت، في ضوء المطالبات الدولية المتزايدة، سوى وجود «صفقة» للفلفة القضية تأخذها إلى مسار يحمي ابن سلمان من أصابع الاتهام، قد تتضح بنودها «في حلول نهاية الأسبوع»، كما توقع ترامب، أمس لـ«ظهور الحقيقة»، مشككاً بوجود تسجيلات لدى أنقرة بالقول: «طلبت تسجيلات صوتية ومصورة من تركيا بشأن خاشقجي، إن وجدت». لم يعد التوجه الأميركي مكشوفاً في سياق الإعلام فقط، بل أكده ترامب بنفسه للمرة الثانية، إذ لم يلحق بومبيو أن ينهي كلمته، أمس، بأن «واشنطن بحاجة لمعرفة الحقائق بشأن اختفاء خاشقجي قبل أن تُعدّ رداً مناسباً»، وأنهم «لن يستثنوا أحداً من المسائلة… بما في ذلك في حال تورُّط أفراد من العائلة الحاكمة»، حتى حسم ترامب الجدال صراحةً قائلاً: «لا أريد التخلي عن السعودية»، بذريعة أنه يحتاجها في حربه على «الإرهاب»، ومشاريع أخرى لا تنتهي بـ«ما يحصل في إيران».
أميركياً، تبدو الكرة في ملعب الرياض اليوم، للبحث عن «كبش فداء»، يَمْسح به ابن سلمان يديه من دم خاشقجي، في ظل وجود جميع المتهمين المباشرين في المملكة. يجهد ابن سلمان في البحث عمّن يُخرجه من دائرة الاتهام، لكن ليس من المتهمين من ليس له صلات مباشرة معه، ولا سيما أعضاء «العصابة» التي نفذت عملية الاغتيال. أولهم مدير الطب الشرعي في الأمن العام، صلاح الطبيقي، الذي «قطّع الضحية في غرفة القنصل» (دائماً حسب التسريبات التركية)، خصوصاً أن «شخصية بهذا الحجم، لا يمكن أن تديرها إلا سلطة عليا»، وفق صحيفة «نيويورك تايمز». وثانيهم، ماهر عبد العزيز مطرب، ديبلوماسي في السفارة السعودية في لندن، وهو مقرب من ابن سلمان، ظهر في عدة صور بالقرب منه خلال زياراته للولايات المتحدة وإسبانيا وفرنسا. ووفق مصادر في مكتب المدعي العام التركي، للصحيفة، فإن الأخير نسّق عملية قتل خاشقجي، واستأجر باسمه، الطائرتين الخاصتين اللتين حملتا منفذيها، مشيرة إلى أنه أجرى 19 اتصالاً هاتفياً يوم قتل خاشقجي، منها أربعة بمكتب سكرتير ابن سلمان، بعد أيام من كشف صحيفة «واشنطن بوست»، عن أن الاستخبارات الأميركية، اعترضت مراسلات تُظهر أن ابن سلمان أمر باستدراج خاشقجي إلى البلاد. أما الباقون، فمعظمهم تأكد ارتباطهم بالأجهزة الأمنية التابعة لابن سلمان، كعبد العزيز محمد الحساوي، وثائر غالب الحربي، ومحمد سعد الزهراني، إذ ظهرت صورهم إلى جانب ابن سلمان في مناسبات عدة، فيما كشف موقع «ميدل إيست آي»، أمس، أن 7 من المتهمين بقتل خاشقجي ضباط بارزون في فريق حماية ابن سلمان. لكن وفق مصدر مطّلع على تقارير المخابرات الغربية، تحدث لصحيفة «واشنطن بوست»، أمام ابن سلمان «كبشُ» آخر يفديه، هو نائب رئيس المخابرات، اللواء أحمد العسيري، مشيراً إلى أن الأخير اقترح مرات عدة على ابن سلمان اتخاذ إجراءات بحق خاشقجي وآخرين.
لا تبدو مهمة ابن سلمان سهلة في البحث عن «كبش فداء» لا خيوط تربطه فيه، لكن الوقت لم يعد يلاحقه كما كان الحال حينما كانت آثار الجريمة والشهود تحت أعين سلطات أنقرة. أما المطالبات الدولية، فتبقى عامل الضغط الوحيد، حتى إخراج رواية «نهائية»، يعلم ابن سلمان أنها ليست المرحلة الأخيرة، لأن لها ما بعدها.