بقلم: دافيد عيسى
سياسي لبناني
عندما يلتقي حزبان أو أكثر، على الساحة المسيحية نفرح ونرحّب، فكيف إذا كان اللقاء بين “تيار المردة” و”القوات اللبنانية” وتحديداً بين من يحمل في قلبه صفات التسامح والشهامة والفروسيّة الوزير سليمان فرنجية والدكتور سمير جعجع.
سمير جعجع قدّم اعتذاراً سياسياً منذ فترة عندما تحدّث عن “ساعة تخلي” مرّ بها الشمال المسيحي وتتحمّل مسؤوليّتها ظروف ومرحلة أكبر منه، حيث كان يومها جعجع مسؤولاً محدود الصلاحيّات في “القوّات اللبنانيّة” وليس الآمر الناهي، ويقال أيضاً إنّه لو لم يصب يومها جعجع في بداية العمليّة لما قُتِلَ المغفور له طوني بك فرنجيّة.
وكان نديم الجميل نجل الرئيس بشير الجميل، قائد “القوّات اللبنانيّة” آنذاك، قد قام منذ نحو الشهر بزيارة للوزير سليمان فرنجية ووضع إكليلاً من الزهر على قبر الوزير الراحل طوني فرنجية في خطوة باتجاه طيّ صفحة الماضي الحزين والأليم وإسدال الستارة على حقبة سوداء في تاريخ المسيحيين.
إذاً اللقاء بين سليمان طوني فرنجية رئيس “تيار المردة” وسمير جعجع رئيس حزب “القوات اللبنانية” الذي طال انتظاره هو لطي صفحة سوداء وأليمة وحزينة من الماضي وبشكل نهائي والانطلاق إلى آفاق مستقبلية واعدة. صحيح أنّ الرجلين سبق والتقيا تحت سقف بكركي في إطار اجتماعات رؤساء الأحزاب المسيحيّة وانكسر جليد القطيعة وجفاء البعد بينهما، ولكن سيكون للقاء الثنائي المباشر والممتلئ صدقاً وصراحة ووجدانيّة وقع آخر والأثر البالغ وسيعلن افتتاح مرحلة جديدة ليس فقط على مستوى الحزبين والعلاقة بينهما، وإنّما أيضاً على مستوى الساحة المسيحيّة المتعطشة لأجواء الوحدة والمحبة والسلام والنابذة لكل أشكال الخلافات والانقسامات والأحقاد.
فهذا اللقاء عندما يحصل قريباً في بكركي أو في أي مكان آخر، يُتوِّج من جهة عمليّة حوار امتدت شهوراً طويلة بين “المردة” و”القوات” عبر لجنة مشتركة فاعلة ومؤمنة بما تقوم به، ومارست عملها ومهامها بعيداً من الإعلام والتسريبات الإعلاميّة…
هذا اللقاء سيعلن من جهة أخرى أنّ عهداً جديداً قد بدأ بين بشري وزغرتا، بين “القوّات” و”المردة”، ويكفي بين الرجال الالتزام بكلمة تعطى ووعد يقطع.
الحوار واللقاء والمصالحة والاتفاق بين “المردة” و”القوّات” ليس ظرفياً إنّما سيكون دائماً ومديداً، لأنّ جوهره قائم على القيم والمبادئ المسيحيّة وأوّلها المحبة والتسامح والغفران، ولأنّ هدفه ليس سياسياً ومصلحياً وإنّما يهدف إلى تنقية الذاكرة الجماعية وإسدال الستارة على صفحة سوداء وفتح صفحة بيضاء مضاءة بنور الحق والرجاء المسيحي.
لقاء فرنجية – جعجع، عندما يحصل، ينبع من قناعة عميقة راسخة لدى الرجلين وجمهورهما بأنه قد آن الأوان لوضع حدّ لكل مآسي الماضي وللتفكير بمستقبل واعد والاعداد له انطلاقاً من وحدة الصف وسياسة الانفتاح والحوار والتلاقي والتعاون، ويكفي أنّ ليس لهذا الأمر علاقة بانتخابات نيابيّة، او بانتخابات رئاسيّة، ولأنّه كذلك فإنّه يقوم على أسسٍ صلبة ومتينة وهو ليس اتفاق مرحلة أو اتفاق مصالح وتقاسم للسلطة والمراكز.
وهنا أقول إنّ نقطة ضعف “اتفاق معراب” كانت أنّه اتفاق قام بين فريقين على المصالح الفئويّة والاستئثار بالقرار المسيحي وليس على مشروع مستقبلي للمسيحيّين في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها في هذه المرحلة الدقيقة والحسّاسة في المنطقة، وهذه ثغرة أساسيّة فيه وهذا ما أدّى إلى تصدعه والوصول به إلى ما وصل إليه اليوم.
لكن بالرغم من كل ذلك ممنوع أنْ يسقط “اتفاق معراب”، إنّما المطلوب والمفترض أنْ يصمد ويتعافى ويعاد تركيزه على أسس أكثر التصاقاً بالمصلحة المسيحية واللبنانية العليا وأكثر ابتعاداً عن المصالح الفئويّة الضيّقة ولعبة السلطة، والمطلوب أكثر أنْ تتعمّم الحوارات والاتفاقات على كل الساحة المسيحيّة فلا تستثني أحداً ولا تهمل وتبعد أحداً.
رؤساء الأحزاب المسيحيّة يُحسِنون فعلاً وصنعاً إذا تصالحوا مع ذواتهم وفي ما بينهم وانطلقوا متضامنين ومتكاتفين وانطلاقاً من القناعات والروحية التالية:
أوّلاً- لا مكان لثنائيات مسيحيّة مقفلة ولا حظ لها في النجاح والحياة، الساحة المسيحيّة تتّسع للجميع ولا مجال فيها لإلغاء أو شطب أحد أيّ أحد.
ثانياً- الوحدة المسيحيّة ضرورة وحاجة وطنيّة لحفظ وصيانة ما تبقى من وجود مسيحي فاعل ومؤثّر ولصياغة الموقف الوطني السليم، وهذه الوحدة لا تعني ولا تتطلب إلغاء الفوارق والخصوصيّات إذ إنّ التنوّع في الوحدة وتعددية الآراء والأفكار يبقيان في أساس تكوين المجتمع المسيحي واللبناني.
ثالثاً- الطموح السياسي مشروع ومبرر، ومن الطبيعي أن يسعى أي رجل سياسي أو حزب الى أعلى المراتب والمسؤوليات لتعزيز مكانته وتحقيق مشروعه السياسي، ولكن يبقى على الطامحين إلى الرئاسة أنْ يعرفوا أنّ موضوع رئاسة الجمهورية خارج هذه المعمعة واللعبة السياسية وكل ما فيها من تجاذبات ومناكفات ومشاورات وصراعات وخلافات، ليس لأن عهد الرئيس ميشال عون ما زال في بداياته فقط، وإنما ايضاً لأنّ رئاسة الجمهوريّة لا تقرّرها مناورات داخلية وإنّما تقرّرها ظروف ومعادلات داخليّة وإقليمية ودولية، وهذه أمور تتحدّد وتتقرّر في الأيّام وحتى في اللحظات الأخيرة من الاستحقاق الرئاسي، وقد علّمتنا التجارب منذ عام 1943 وحتى اليوم أنّ ما من رئيس وصل بقوّته وبالتوقيت الذي اختاره.
ولأننا على ثقة بأن اتفاق المصالحة بين “المردة” و”القوات اللبنانية” مبني على مجمل هذه المبادئ والقناعات والروحيّة فإنه يتمتّع بمقوّمات وصمود ومناعة ذاتيّة وعناية خاصة، لعل وعسى خيراً وإيذاناً بانطلاقة مرحلة جديدة لا تكون فيها خيبات وسقطات…