نجحت واشنطن إلى حدّ كبير في تضييق الخناق اقتصاديّاً على طهران ولم يكن احتجاز ناقلة النفط الإيرانيّة في مضيق جبل طارق آخر فصول الحظر المفروض عليها وعلى حلفائها من جهة والاستمرار بدعم "التحالف العربي" في اليمن وتأجيل التسوية في سوريا والضغط المستمر في العراق من جهة أخرى، ما دفع بإيران إلى الضرب على الطاولة. هي ضربة مدروسة أرادتها في مضيق هرمز، وهي تعلم أنها لن تؤدي إلى حرب لا تريدها على اعتبار ان الأطراف الأخرى لا تسعى كذلك إلى معركة عسكرية تعلم أنها ستكون قاسية وغير محدودة.
إيران الضليعة بـ"حرب الناقلات" التي اندلعت ما بين 1980 و1988، لم ترضيها سياسة الناقلة بالناقلة، بل أرادت عرقلة ناقلات نفط أخرى بقصد إرسال رسالة مفادها أنها جادة في الذهاب بعيداً في معركة الخيارات الصعبة وحاضرة لتنفيذ تهديداتها، ولأن ما فعلته قبل أسابيع من استهداف محدود وإلحاق الضرر ببعض الناقلات الخليجيّة لم يحدث الصخب الدولي المطلوب ولم يكن كافياً لإحداث الإرتباك الذي أحدثته في خطوتها الأخيرة، لكنها من جهة أخرى أفرجت سريعا عن الناقلات التي احتجزتها باستثناء البريطانية منها، لأنها تعلم جيدا أنه في أوج حربها مع العراق واستهدافها للناقلات الخليجية لا سيما الكويتية منها آنذاك، لم يستطع أحد وقف تدفق النفط من الممر عينه لما لذلك من تأثير خطير على الإقتصاد العالمي وعلى مصالح "الدول الكبرى"، وهو الخيار الأصعب على الإطلاق.
هكذا يبدو أن العالم الذي لم يحتمل إستخدام النفط كسلاح من أجل القضية الفلسطينية عام 1973، لن يحتمل عرقلة أخرى في أهم معبر نفطي في العالم، ما يضع الجميع أمام الخيارات الصعبة مجدداً: تأمين الملاحة البحرية عبر مضيق هرمز من خلال إرسال قوات عسكرية أوروبية – أميركيّة ستكون كلفتها عالية وقد تؤدي إلى تصعيد أخطر مع إيران وبالتالي الإنزلاق إلى حرب شاملة، أو السماح للأوروبيين بتنفيذ بعض إلتزاماتهم في الإتفاق النووي ما يحفظ ماء وجه واشنطن ويبقي الضغط على طهران ولكن بشكل محدود كما في السابق.
ثم إن السير بالخيار الاول يعدّ ضربا من الجنون قد يؤدي إلى حرب بدأت بالوكالة في سوريا والعراق واليمن وحتى في لبنان الذي تأثّر أمنيا ولا يزال يتأثر بالتبعات الإقتصادية لهذه الحرب، أمّا السير بالخيار الثاني فيعني كسب إيران، ولو بشكل محدود، للمعركة الطويلة في الشرق الأوسط، ولكن والأهم أن الخيار الثاني يحفظ مصالح واشنطن في المنطقة دون الذهاب إلى خيار الحرب أو التسليم المطلق لإيران تمهيدا لـ"الصفقة الكبرى" لاحقا.
أمر وحيد بإمكانه تغيير أحداث المنطقة سريعاً، هو في ظاهره مستحيل، لكنه اليوم قابل أكثر من اي وقت مضى للتطبيق: البدء بمحادثات إيرانيّة – خليجيّة، يَطرح فيها الطرفان جميع أوراقهم على الطاولة من خلافات ومخاوف يصار إلى حلّها ورقة ورقة بتقديم تنازل من هنا وضمانة من هناك ما يوفّر على الأطراف كافة تكلفة المعركة الكبرى إذا ما وقعت.
الأكيد في الأمر أن ترامب لا يريد مواجهة أو حلّاً مع إيران يؤثّر سلبا على صورته قبل الإنتخابات الرئاسيّة المقبلة، هو لن يسلك طريق سلفه باراك أوباما، عرّاب الإتفاق النووي، لكنه قد يتجه لتلطيف الأجواء مع إيران أكثر إذا ما بقي رئيساً. لكن محافظة واشنطن على مصالحها في المنطقة ليس السبيل الوحيد أمام أي تسوية لاحقة، فإسرائيل لن تسمح بحصول أي توافق أو حلّ على حساب أمنها، ما يضع ترامب أمام خيارات أحلاها خفض الحظر المفروض على طهران.