خبر

منازلة جيوسياسيّة في آسيا الوسطى: روسيا اللاعب الأقوى

سامر زريق نقلاً عن "أساس ميديا"

اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الصين لتكون وجهته الخارجية الأولى عقب بدء ولايته الرئاسية الجديدة، والثالثة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. وهذا يبرز الأهمّية التي يوليها للشراكة الاستراتيجية معها. في المقابل، وبعدما راهن الغرب على سلاح العقوبات لإسقاط الاقتصاد الروسي بالضربة القاضية، فإنّ روسيا فاجأته بتحقيق اقتصادها في العام الماضي نموّاً فاق الاقتصادين الأميركي والأوروبي. علاوة على نجاحها في تطوير نفوذها الجيوسياسي وصولاً إلى القارّة الإفريقية، وعلى حساب النفوذ الأوروبي والأميركي بالذات.

كلّ ذلك دفع بحلف شمال الأطلسي “الناتو” إلى التفكير في استراتيجية جديدة لمحاصرة النفوذ الروسي الجيوسياسي المتمدّد وتقويضه. وفي القلب منها تقع منطقة آسيا الوسطى المكوّنة من 5 دول: كازاخستان، أوزبكستان، تركمانستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، نظراً لموقعها الاستراتيجي الذي يجعل منها جسراً حيوياً للتبادل التجاري بين روسيا والصين، فضلاً عن الموارد الطبيعية التي تختزنها.

الضامن الاستراتيجيّ

كان بوتين قد اصطحب معه وفداً رفيع المستوى في زيارته لبكّين، التي استمرّت يومين في 16 و17 أيار الجاري، من أجل توقيع عدد من الاتفاقيات الثنائية في “مجالات الطاقة والصناعة والزراعة والابتكارات والبنية التحتية والنقل”، حسب وكالة “سبوتنيك” الروسية، وكذلك الاتفاق على خطوات مستقبلية مشتركة تعبّد الطريق نحو الهدف المشترك لكلا البلدين: إنشاء نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب.

كشف بوتين عقب لقائه نظيره الصيني أنّ “حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ 227 مليار دولار العام الماضي، والأهمّ أنّ 90% منه يتمّ بالعملتين الوطنيّتين”.

بالطبع، ستستفيد دول آسيا الوسطى من كلّ ما سبق، بحكم الموقع الجغرافي، والعلاقات التاريخية مع روسيا التي تشكّل بالنسبة إليها “الضامن الاستراتيجي”. فدول المنطقة الخمس تتشارك مع جمهوريات سوفيتية سابقة في عضوية “رابطة الدول المستقلّة” التي تأسّست عام 1991، فضلاً عن عضوية عدد منها في هياكل إقليمية أخرى أنشأتها روسيا أو تشكّل رأس الحربة فيها، مثل “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، و”الاتحاد الاقتصادي الأوراسي”، وأخيراً “منظمة شنغهاي للتعاون”، بالإضافة إلى القواعد العسكرية الروسية في طاجيكستان وقيرغيزستان.

كذلك تحتضن روسيا آلاف المهاجرين من آسيا الوسطى، الذين تسهم تحويلاتهم المالية في دعم اقتصاد بلدانهم، خصوصاً في طاجيكستان وقيرغيزستان، الأكثر فقراً في المنطقة، حيث تشكّل تلك التحويلات نحو ثلث الناتج القومي في كلا البلدين، فضلاً عن تقديمها عشرات المنح التعليمية في الجامعات الروسية، بما يمنحها تأثيراً لدى صنّاع القرار المستقبليّين.

من باب تعزيز الانفتاح على المجتمعات الإسلامية، أقرّ البرلمان الروسي أواخر عام 2022 “قانون الصيرفة الإسلامية”، الذي تجري تجربة تطبيقه حالياً قبل تعميمه بعد بضعة أشهر. الأمر الذي يتيح لما يزيد على 20 مليون مسلم، غالبيتهم من المحافظين، ومنهم شعوب آسيا الوسطى، الوصول إلى أدوات التمويل الإسلامي “الحلال”.

ابتزاز غربيّ

لم يكن لدول آسيا الوسطى مكانة في السياسات الخارجية للغرب، ولا سيما “الناتو” والاتحاد الأوروبي. على النقيض من الاهتمام بدول أوروبا الشرقية، التي جرى إدخال بعضها الى العائلة الأوروبية، وعدد أكبر منها إلى “الناتو”.

بعض خبراء السياسة والجيوبوليتيك يرجعون ذلك إلى رهان الغرب على صدام جيوسياسي بين روسيا والصين حول السيطرة على دول تلك المنطقة التي تتوسّطهما، في حين أنّهما استغلّا هذه المساحة المشتركة لتوطيد تحالفهما. ولذا كانت منطقة آسيا الوسطى أحد العناوين الرئيسة للقمّة بين الرئيسين الروسي والصيني.

مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، بدأ الغرب يبدي اهتمامه بمنطقة آسيا الوسطى، بعدما راح ينظر إليها على أنّها تشكّل شرياناً حيوياً لروسيا يعينها في الالتفاف على العقوبات، عبر البضائع ذات الاستخدام المزدوج، أي استيراد تلك الدول للسلع والبضائع من أجل روسيا، وكذلك مرور السلع والبضائع الصينية إلى روسيا عبرها أيضاً.

في أيلول الماضي، اجتمع الرئيس الأميركي جو بايدن مع رؤساء الدول الخمس في آسيا الوسطى، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سابقة هي الأولى من نوعها واعتبرها بايدن “لحظة تاريخية”.

في منتصف كانون الثاني الماضي، دعا البرلمان الأوروبي إلى تطوير استراتيجية التعاون مع دول آسيا الوسطى “لتحقيق أقصى استفادة منها في ظلّ المتغيّرات الجيوسياسية بالمنطقة”. لذا انعقد في آخر الشهر نفسه بالعاصمة البلجيكية بروكسل، منتدى مشترك بين الاتحاد الأوروبي ودول آسيا الوسطى. وأعلن برلمان أوروبا في ختامه ضخّ 10 مليارات دولار للاستثمار في ممرّ النقل في بحر قزوين، الذي سيربط منطقة آسيا الوسطى بالدول الأوروبية في رحلة برّية مدّتها 15 يوماً.

حاول الاتحاد الأوروبي، ومن خلفه “الناتو”، استخدام هذه الاستثمارات لابتزاز دول آسيا الوسطى من أجل الضغط على روسيا. فدعا ممثّل الاتحاد للشؤون الخارجية، جوزيف بوريل، دول آسيا الوسطى إلى “فرض عقوبات على موسكو”، في أصدق تعبير عن مدى التفاف الغرب “الحضاري” ومحاولة الإيقاع بين الحلفاء، إلا أنّها رفضت بالطبع.

كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وصف الضغوطات الأوروبية على دول المنطقة لتنفيذ العقوبات ضدّ بلاده بأنّها “وقاحة”، مؤكّداً أنّهم “لن ينجحوا في إزاحتنا من آسيا الوسطى”.

مفتاح النّفوذ العالميّ

بعدما فشل الاتحاد الأوروبي في ليّ ذراع دول آسيا الوسطى بسياسة العصا والجزرة، تدخّلت بريطانيا التي لطالما عدّت نفسها رأس حربة “الناتو” في التمدّد الجيوسياسي، ولا سيما عبر أدوات القوّة الناعمة.

في 23 نيسان الماضي، أجرى وزير خارجيّتها ديفيد كاميرون جولة في دول آسيا الوسطى، أعلن خلالها عن مبادرة “زهيدة” بقيمة 50 مليون جنيه استرليني (62 مليون دولار) في السنوات الثلاث المقبلة، تشمل مجالات التنمية المختلفة، مقابل مطالبته دول المنطقة فقط بـ”التنويع” في شراكتها الاستراتيجية. وكان لافتاً سعي كاميرون عبر الصور ولقطات الفيديو إلى إظهار أكبر قدر من الحميمية والتعبير عن مدى افتتانه بثقافات وعادات تلك البلدان.

جاءت الجولة استجابة لتوصيات لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني، التي أصدرت منذ بضعة أشهر تقريراً خاصاً ومطوّلاً عن آسيا الوسطى، أفردت فيه 8 فصول عن خصائص كلّ دولة فيها. وشدّدت على ضرورة تطوير العلاقات معها لأنّها “ضرورة جيوسياسية”. لكنّها تندرج أيضاً في إطار عودة بريطانيا إلى إحياء نظرية عالم “الجيوبوليتيك” البريطاني السير هالفورد ماكيندر: “من يحكم الأراضي الوسطى سيسيطر على جزيرة العالم، ومن يحكم جزيرة العالم سيسيطر على العالم”.

اعتبر ماكيندر آسيا الوسطى “المفتاح للنفوذ العالمي”. فيما تشكّل أوروبا الشرقية “جزيرة العالم”، وفي القلب منها أوكرانيا التي جعلها الغرب رأس حربة في سعيه إلى الإطباق الجيوسياسي على روسيا. وهي النظرية التي استلهمها بريجنسكي في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى”، حيث رأى أنّ آسيا الوسطى تنطوي على أهمية جيوسياسية بسبب موقعها الاستراتيجي الرابط بن غرب أوراسيا وشرقها. وأطلق عليها مسمّى “البلقان الأوراسي” بسبب تشابهها في تعدّديّتها القومية وضعف كياناتها السياسية مع “البلقان الأوروبي”.

كلّ ذلك تعيه موسكو تماماً. ومن أجل قطع الطريق أمام أيّ نوع من النفوذ الجيوسياسي المستقبلي لـ”الناتو” في آسيا الوسطى، فإنّها أوجدت صيغ تعاون تكاملية مع الصين تتيح لهما توزيع الأدوار في المنطقة.

بالإجمال، فإنّ المنافع المتأتّية من الشراكة بين الصين وروسيا والفرص المستقبلية الجذّابة التي تتيحها، تجعل من مهمّة الناتو المتمثّلة في استغلال دول المنطقة للضغط على روسيا صعبة للغاية، ولا سيما أنّ الأخيرة شكّلت على الداوم حامي المنطقة من عواصف الغرب وثوراته الملوّنة.