سامر زريق في "أساس ميديا"
حقّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فوزاً ساحقاً في الانتخابات الرئاسية الروسية التي أُجريت بين 14 و17 آذار الجاري. وإذا كان الغرب، وعلى رأسه أميركا، قد راهن على انخفاض نسب التصويت. تحت تأثير الورقة الأوكرانية التي راح يستثمر فيها حتى الثمالة. بما يتناسب وأهدافه الخاصة. فإنّ إقبال الشعب الروسي على الاقتراع بنسب قياسية فاقت كلّ التقديرات، وبلغت 77% في انتخابات روسيا، يدحض كلّ السرديّات التي روّجت لها الآلة الإعلامية الغربية.
ماذا يعني أن يفوز الرئيس فلاديمير بوتين بشكل ساحق، في انتخابات روسيا التي بلغت نسبة المشاركة فيها 77%؟
في العودة إلى الوراء، فإنّه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أواخر عام 1991، أدخل الاتّحاد الروسي على دستوره ونظامه السياسي تعديلات جوهرية. كان من بينها استحداث منصب رئيس الجمهورية، وانتخابه من الشعب مباشرة لمدّة 5 سنوات، ومنحه صلاحيّات واسعة. فهو الذي يحدّد الاتّجاهات الرئيسية في السياسة الداخلية، وكذلك في السياسة الخارجية والسياسات الاقتصادية. مثل قرارات الموزانة والضرائب والاستثمار وغيرها. وأيضاً السياسات الاجتماعية. مثل الرعاية الصحّية والتعليم وأنظمة الحماية الاجتماعية. وهو من يقوم بتعيين رئيس المحكمة الدستورية ويسمّي قضاتها.
أُجريت انتخابات روسيا الرئاسية للمرّة الأولى عام 1991. وفي عام 1993. خُفّضت الولاية الرئاسية من 5 إلى 4 سنوات. ثمّ أعيد رفعها عام 2008 إلى 6 سنوات. تعاقب على المنصب 3 شخصيات فقط: بوريس يلتسين بواقع ولايتين (1991 – 1999) . واستقال قبل عام تقريباً من موعد الانتخابات. وفلاديمير بوتين بواقع ولايتين (2000 – 2008) . وديمتري مدفيديف (2008 – 2012) . ثمّ بوتين مجدّداً بواقع ولايتين لستّ سنوات (2012 – 2024).
أواخر آذار 2021، صوّت البرلمان الروسي “الدوما” على جملة تعديلات دستورية. بعد تنظيم استفتاء جماهيري عليها عام 2020 نالت فيه أكثريّة كاسحة. وبموجب هذه التعديلات، جرى تصفير عدّاد الولايات الرئاسية لبوتين. ليغدو بإمكانه البقاء رئيساً لروسيا لولايتين جديدتين تنتهيان عام 2036. وبذا يكون الزعيم الأطول عهداً في التاريخ الروسي المعاصر. متفوّقاً على أبرز وأشهر أباطرة وزعماء روسيا. ويتوّج بأكثريّة شعبية كاسحة “قيصراً” على روسيا الحديثة.
إذا كانت نسب التصويت في انتخابات روسيا الحالية هي العليا في تاريخ روسيا الحديث. فذلك لأنّها كانت بمنزلة استفتاء على شعبية بوتين وسياساته في مواجهة هيمنة الغرب. فالضغوط الغربية على روسيا والعقوبات المفروضة عليها كانتا عاملين رئيسيَّين في ارتفاع نسب الإقبال على الاقتراع. في تعبير واضح عن وحدة الأمّة الروسية في مواجهة الضغوط والإملاءات الخارجية وسياسات الاستعلاء الغربي.
من جانب آخر، فإنّ مشاركة جمهوريّتَي دونيتسك ولوغانسك، المنضمّتين حديثاً إلى الاتّحاد الروسي، ومقاطعتي خيرسون وزابورجيا، أكسبت انتخابات روسيا الرئاسية بعداً تاريخياً. بتسجيل المشاركة الأولى لأبناء الأمّة العائدين إلى حضن الوطن في اختيار رئيس جديد للبلاد.
زيادة 3 جمهوريات… ومقاطعتان
في الأساس، يتكوّن الاتّحاد الروسي من 83 وحدة إدارية فدرالية أساسية على الشكل التالي:
– هناك 21 جمهورية ذات حكم ذاتي.
– 10 أقاليم.
– 45 مقاطعة.
– 5 مناطق حكم ذاتي.
– ومدينتان فدراليتان هما العاصمة موسكو وسانت بطرسبورغ.
عام 2014 تغيّر كلّ شيء:
– صار عدد الجمهوريات 22، مع انضمام “جمهورية القرم” المستقلّة.
– وكذلك صار عدد المدن الفدرالية ثلاثاً عقب انضمام مدينة سيفاستوبول الفدرالية.
– وبعد إعلان موسكو استقلال جمهوريتَي “دونيتسك” و”لوغانسك” في شباط 2022، انضمّت الجمهوريتان إلى الاتحاد الروسي ليصبح عدد الجمهوريات 24.
– وكذلك الحال بالنسبة لعدد المقاطعات الذي صار 47 بانضمام زابورجيا وخيرسون.
من الظواهر البارزة في انتخابات روسيا الرئاسية، كان الإقبال الكثيف على المشاركة في الجمهوريات والمقاطعات الحديثة العهد بالاتّحاد الروسي. بما يعكس مدى رغبة سكّانها في أن يكونوا مواطنين روساً. وجزءاً أصيلاً من الأمّة الروسية. على النقيض تماماً ممّا تسوّق له الآلة الإعلامية الغربية عن احتلال مزعوم. كما أنّه ليس تفصيلاً حصول بوتين على نسب أصوات قياسية في هذه الأقاليم ناهزت 90%.
كذلك الحال، فقد كان الإقبال على المشاركة في الاستحقاق الرئاسي لافتاً لدى المسلمين الروس. ثمّة 8 جمهوريات ضمن الاتحاد الروسي ذات أكثرية إسلامية، وهي: أنغوشيا، الشيشان، داغستان، قراشاي سركيسيا، قبردينو – بلقاريا، بشكيريا، تتارستان، جمهورية القرم.
وفي هذه الجمهوريات الثماني، حصد بوتين نسب تصويت هائلة جداً تراوحت بين 87% و92%. ما خلا الشيشان التي صوّتت لبوتين بنسبة ناهزت 99%. وبذلك تصدّرت الشيشان كلّ الكيانات الروسية في منح ثقتها للرئيس الروسي مرّة جديدة. فتجاوزت العاصمة موسكو، ومدينة سانت بطرسبورغ التي يتحدّر منها بوتين.
اليهود الروس يؤيّدون “القيصر”
من الأمور التي قلّما يتمّ التعرّض لها في السرديات، التي يروّج لها في الغرب، “المقاطعة الذاتية اليهودية” في الاتّحاد الروسي. هذه المقاطعة أُنشئت بقرار من الزعيم السوفيتي جوزف ستالين عام 1934. وتتمتّع باستقلال ذاتي ضمن الاتّحاد الروسي. ويبلغ عدد سكّانها ما يزيد على 170 ألف نسمة، حسب إحصاءات عام 2013.
لم تحِد هذه المقاطعة عن المناخ العامّ الروسي المؤيّد لبوتين. إذ ناهزت نسب التصويت فيها 90%. وحصد بوتين أكثر من 92% من الأصوات انتخابات روسيا. وهذا ما يؤكّد ترابط الأمّة الروسية بكلّ أعراقها وتلاوينها. ويؤكّد أيضاً عمق العلاقة بين اليهود والنظام الروسي. وهذه العلاقة لم تتأثّر بموقف الرئيس الروسي الداعم للشعب الفلسطيني ضدّ حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة. لا بل على العكس، فقد أثبت تصويت “المقاطعة الذاتية اليهودية” وجود هوّة كبيرة بين اليهود المنتشرين في أرجاء العالم… وبين الحركة الصهيونية وحكومة المتطرّفين التي تقود إسرائيل نحو عزلة غير مسبوقة في تاريخها.
أميركا لا تزال ترفض بحسم أيّ دور روسيّ. انطلاقاً من رغبتها الدائمة في عزل روسيا، وإضعاف حضورها في الساحة الدولية
الرئيس الروسي لطالما أعرب عن رغبته في إيجاد حلّ نهائي وعادل للقضية الفلسطينية. ويكاد يكون الزعيم الدولي الوحيد الذي يتمتّع بعلاقة وثيقة مع مختلف أطراف النزاع. حتى في الداخل الفلسطيني المنقسم على ذاته. وهذا ما دفع بحركة حماس إلى وضع روسيا كضامن للاتفاق في ورقتها التي قدّمتها إلى قطر ومصر، اللتين تقودان الوساطة لإيقاف الحرب الدموية.
بيد أنّ أميركا لا تزال ترفض بحسم أيّ دور روسيّ. انطلاقاً من رغبتها الدائمة في عزل روسيا، وإضعاف حضورها في الساحة الدولية. ولذلك بذلت واشنطن وحلفاؤها الغربيون جهداً حثيثاً لثني الروس عن المشاركة في الانتخابات، بغية إظهار بوتين بصورة المعزول من شعبه. إلا أنّ المشاركة الكثيفة للشعب الروسي في الاقتراع، دحضت كلّ السرديات التي روّج لها الغرب من أجل تقويض العملية الانتخابية والطعن في شرعيّتها. فالشعب الروسي لم يصوّت لفلاديمير بوتين فقط، بل صوّت لـ”روسيا القويّة” التي يمثّلها بوتين. وهذا كان الحافز الأكبر على المشاركة في التصويت قبل أيّ عامل آخر.