خبر

عن المكسب الاستراتيجي لروسيا من نجاح التطبيع بين أنقرة ودمشق

نبيل الجبيلي نقلاً عن "الجزيرة"

قبل نحو شهر، كانت التحضيرات للقاء مرتقب بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره السوري بشار الأسد، شبه مكتملة. لكن فجأة تبدل كل شي، وعاد الأسد إلى رفع السقف من خلال مطالبة الجيش التركي بالانسحاب من الأراضي السورية في الشمال، كشرط من أجل التطبيع رغم حاجته الملحة لهذا التطبيع.

أما تركيا التي كانت تعارض التطبيع مع نظام الأسد سابقا، فأبدت شيئا من اللين قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية الأخيرة، وذلك من أجل قطع الطريق على المعارضة التركية التي كانت تبدي انفتاحا على التلاقي مع النظام. لكن رغم انقضاء الانتخابات وفوز أردوغان، لم يتراجع الأخير عما وعد بالسير به، واستمر في إظهار بعض اللين إلى اليوم.

وفي هذا المسار تلعب روسيا دور الوسيط الفاعل من أجل تقريب وجهات النظر بين حليفيها (سوريا وتركيا)، اللذين يؤكدان منذ مدة أن التلاقي أمر لا مفر منه وأن التطبيع حاجة للطرفين، لكن تبقى العبرة في التنفيذ.

اليوم تقبع موسكو في الوسط بين دمشق وأنقرة، فمن جهة تتفهم الهواجس الأمنية التركية وخطر ما تعتبره أنقرة "إرهاب حزب العمال الكردستاني" المقبل من الحدود مع سوريا، ومن جهة أخرى تقدر المطلب السوري الداعي إلى انسحاب الجيش التركي من أراضيها للحفاظ على سيادتها.

وتعتبر موسكو أن التطبيع "مكسب إستراتيجي" للجميع، ولهذا تدعو الطرفين إلى الانخراط به. فمن خلال التطبيع تستطيع موسكو التعاطي مع الطرفين بسهولة أكبر، وتتقدم خطوة إضافية في طريق إرساء الحل السياسي في سوريا.

أما النظام السوري، فيمكنه من خلال التطبيع، فك عزلته مع أهم جار له شمال البلاد، وهذا قد يفتح له آفاقا جديدة ومفيدة من التعاون، من أجل الحصول على المساعدات وشراء البضائع وإعادة تعويم اقتصاده من خلال تخطي ما تيسر من العقوبات الأميركية، خصوصا بعد تردد بعض الدول العربية في الاستمرار بالتقرب من النظام نتيجة ضغوط أميركية فيما يبدو.

ومن خلال التطبيع أيضا، تستطيع دمشق قطع الطريق على الدعم الذي تقدمه تركيا إلى المعارضين السوريين، وتتهم أنقرة بحمايتهم ومساعدتهم. ومن خلاله أيضا، يستطيع النظام ترتيب أوراق ملف اللاجئين. أولئك الذين تصر تركيا منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية (حكومة وشعبا وأحزاب معارضة) على إعادتهم إلى قراهم ومدنهم بأي طريقة، أو بأضعف الإيمان إعادتهم إلى داخل الحدود السورية.

ومن هذا المنطلق، فإن للنظام السوري مصلحة في التنسيق مع الدولة التركية بتفاصيل هذه الخطوة، إذ من الأفضل لبشار الأسد أن يعود هؤلاء السوريون إلى الداخل السوري، بعلمه ودرايته وبالتنسيق معه، بدلا أن يعودوا بلا موافقته أو "غصبا عنه".

أما تركيا، فلها اعتبارات أخرى مختلفة من مسالة التطبيع. وهواجس أنقرة تنطلق -بعد الأمن- من الاقتصاد. وأردوغان يعرف أن الوضع الاقتصادي في تركيا متعثر، ويسعى إلى سد الثغرات التي تعيق استعادة النمو وانتعاش الليرة التركية.

والانفتاح على سوريا قد يكون مفيدا للاقتصاد التركي، لأنه سيسهل عودة نحو 3.8 ملايين لاجئ سوري تسببوا بأزمة ديمغرافية واقتصادية كبيرة في الداخل التركي. عودتهم ستدفع نحو إبطاء التدهور الاقتصادي في تركيا، وستخفف الضغوط على البنى التحتية التركية، وعلى فواتير استهلاك الطاقة والوقود التي تستوردها تركيا من الخارج، وتتكبد ما يقترب من ملياري دولار سنويا من أجل ذلك (الفاتورة كاملة 45 مليارا).

وعودة اللاجئين إلى سوريا ستؤكد أن "حزب العدالة والتنمية" ذو مصداقية، ويلتزم بالوعود التي يقطعها لناخبيه. وهذا قد يساعده على تخطي ضغوط المعارضة التي تلاحق الحزب بتحركاته السياسية وبخطواته وبأدق التفاصيل، وبذلك يستطيع أردوغان أن يؤسس إلى مرحلة واضحة المعالم في العلاقة مع الأتراك ويرسم مستقبلا واعدا للحزب بعد نهاية ولايته الأخيرة (ربما) في الرئاسة التركية.

أضف إلى ذلك أن إقفال ملف اللاجئين السوريين، سيسمح لأردوغان بالتفرغ لملف التنظيمات الكردية التي يعتبرها "خطرا داهما" على حدود البلاد. ناهيك عن المكاسب التي سيحصل عليها نتيجة تعزيز علاقته أكثر مع موسكو التي تراهن على هذا التقارب.

لكن رغم هذا كله، فإن النظام السوري يتحدث لغتين. فبينما يعتبر رئيس النظام بشار الأسد أن لقاء أردوغان غير ذات قيمة ويسأل "لماذا ألتقيه؟ لشرب المرطبات؟" يقول وزير خارجيته فيصل المقداد في الوقت نفسه ومن طهران إن "قوات سوريا الديمقراطية (قسد) هي قوات "انفصالية ومجرمة"، ولا تريد الخير لسوريا. ويضيف "نريد لأي قوة أجنبية غير مشروعة أن ترحل عن أرضنا، كي تكون هناك علاقات طيبة بين الشعبين السوري والتركي".

وهذا يظهر أن سوريا تتحدث لغتين؛ لغة تدعو إلى التلاقي مع أنقرة ولغة أخرى ترفض التطبيع.. فأي لغة يُصدّق العالم؟ هذا مرتبط بما ستظهره الأيام المقبلة.