خبر

موجهة "سيبرانية" جديدة في أروقة الأمم المتحدة بين واشنطن وموسكو

عماد الشدياق نقلاً عن "إيلاف":

في 15 أيار (مايو) الفائت، قدّمت روسيا لدورة الجمعية العامة للأمم المتحدة الـ77، مسودة معاهدة تدرسها الأمم المتحدة، وعنوانها ضمان أمن المعلومات الدولي.

المناقشة الدولية الجارية حول تلك المسودة الروسية الخاصة بخوادم معلومات الانترنت (IIS)، تشير إلى دعم متزايد وغير مسبوق من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، من أجل اعتمادها صكّاً عالمياً ملزماً بموجب القانون، يضمن الاستقرار والأمن في فضاء المعلومات العالمي.

روسيا تعتبر أنّ مبادرتها هي "نموذج أولي" لتلك المعاهدة المنتظرة، يستند على مبادئ المساواة بسيادة الدول، وعلى عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية. كما يهدف النموذج الروسي إلى منع النزاعات أو تسويتها، في حال وقعت، من خلال إرساء التعاون بين الدول مع محاولة بناء قدرات الدول النامية في مجال أمن المعلومات.

برغم الاعتراضات الغربية، تبدي روسيا استعدادها لمناقشة الوثيقة ومراعاة الاقتراحات والتعليقات، كما تدعو دول العالم، باعتبارها شركاء للانضمام إلى مبادرتها من أجل "بناء نظام عادل وشامل لأمن المعلومات الدولي".

رد فعل الدول حول مبادرة روسيا كان إيجابياً حتى الآن، وقد أظهرت العديد من دول العالم دعماً لفكرة وجود صكّ عالميّ ملزم قانوناً، من أجل استقرار الفضاء السيبراني.

جلسة التفاوض الخامسة، مَثَلَ فيها أكثر من 100 عضو من نحو 100 دولة، وكان هدف تلك الجلسة وضع اقتراحات تضاف إلى المسودة، وتغطي: التعاون الدولي، والمساعدة الفنية، والوقاية من الجرائم الإلكترونية، وتفاصيل تنفيذها وغيرها من الأحكام.

ومن المقرر أن تُعقد جلسة إضافية هي سادسة خلال شهر آب (أغسطس) المقبل في نيويورك، ثم تليها جلسة سابعة في كانون الثاني (يناير) من العام 2024، إذ يفترض أن تكون المسودة النهائية للاتفاقية قد انتهت، وسُلمت للأمم المتحدة للنظر فيها من قبل الجمعية العامة (الاجتماعات الخمس الأولى بدأت منذ 28 شباط/فبراير 2022).

الولايات المتحدة ودولاً أعضاء آخرين في الاتحاد الأوروبي، يبدون تحفظات على تلك المسودة، بل على المعاهدة ككل، وذلك بسبب مخاوف بشأن ما يقولون إنّها "انتهاكات لحقوق الإنسان". روسيا لم تذعن، وقد دفعت باقتراحها إلى الأمام في أروقة الأمم المتحدة، وبدأت بإجراء المفاوضات مع الدول الأعضاء.

وبحلول نيسان (أبريل) 2022، أي بعد أيام من الحرب الأوكرانية، كانت العديد من الدول ممن عارضت المسودة، تشارك بتلك المفاوضات وتسعى إلى الوصول لـ"حل وسط" من خلال التعديلات.

الغرب يوافق في العلن ويرفض في السرّ
الولايات المتحدة لا تعارض المسودة في العلن، بل تدفع هيئات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية التي تدور في فلكها من أجل رفضها، باعتبارها "مبادرة مقلقة". في نظر هذه الهيئات، فإنّ المسودة الروسية سيكون لها القدرة على "إعادة صياغة القانون الجنائي بشكل جذري في جميع أنحاء العالم".

الهيئات تصف المعاهدة بأنّها "تحول جذري" بسبب طبيعتها العالمية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالوصول إلى المعلومات الشخصية للأفراد عبر الحدود".

يعتبر المعارضون للمعاهدة أنّها ستحدّ من القواعد العالمية للمراقبة القانونية والعمليات القانونية المتاحة للتحقيق مع مجرمي الإنترنت ومقاضاتهم، لأنّها في نظرهم تأتي "على حساب حرية التعبير". يتهمون روسيا والدول الداعمة لها، باستخدام "لغة غامضة" في مضمون المسودة، قد تفتح الباب لمشاركة البيانات "بالجملة" بدلاً من التحقيقات المتعلقة بأدلة محدّدة. كما يرون أنّ قانون "ازدواجية التجريم" يمكن أن يدفع بسلطات الدولة إلى التحقيق في الأنشطة التي لا تُعتبر جرائم في بلادهم.

المعترضون وأغلبهم من الدول الغربية، يرون أنّ العديد من الجرائم الجديدة المقترحة ضمن المعاهدة، هي جرائم "تستند إلى الكلام والكتابة"، وهذا يفرض على الدول العالم كلّها أن تُفسر تشريعاتها الوطنية من جديد. ولهذا يبثون الخوف في نفوس الرأي العام العالمي، من خلال القول إنّ المسودة يجب أن تكون مصدر قلق للصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والناشطين بشكل عام، لأنها "قد تفتح الباب لمقاضاتهم إذا تم تبنيها في التشريع الوطني".

ويحاججون لرفضها بالإعلان أنّ أي معاهدة تخصّ الجرائم الإلكترونية "يجب أن تجعل الناس أكثر أماناً"، لكنّ المسودة في نظرهم "تفعل العكس"، لأنّها تتسم بـ"الإلزامية" بعد تحوّلها إلى معاهدة صادرة عن الأمم المتحدة، وقد تفتح الباب أمام التدخّل بقصد خبيث أو بقصد إلحاق الأذى بالمعارضين!

خلاصة القول، هؤلاء المعارضون المدفوعين من واشنطن والدول الغربية، يريدون أن تستمر الفوضى في مجال الأمن السيبراني، لأنّ هذه الفوضى هي مصدر تفوق الولايات المتحدة في المجال السيبراني.

الاعتبارات الروسية بمكان آخر
أمّا روسيا، فلها رأي آخر مختلف. إذ تعتبر أنّ التقدم التكنولوجي ساهم في تعزيز دور الولايات المتحدة الأميركية كدولة رائدة عالمياً في مجال أمن المعلومات الدولي. وبالتالي، فإنّ سياستها الإلكترونية تؤثر منذ عقود وبشكل كبير، على أمن الدول والأفراد، وكذلك على الاستقرار الدولي بشكل عام.

ترى موسكو أنّه بحجّة الحماية من الهجمات المعلوماتية، تدافع الولايات المتحدة عن مصالحها الجيوسياسية من خلال إنشاء جمعيات ومنظمات خاضعة للرقابة. هذه المنظمات تشارك في أمن المعلومات العالمي، وتبدي آراء وتظهر ردود أفعال من أجل الاستجابة وصدّ الهجمات السيبرانية.

من بين هذه المؤسسات مثلاً، ثمّة منظمتان، وهما:
- CERT (Computer emergency response team)
- FIRST (Forum of Incident Response and Security Teams).

وظيفة هاتين المنظمتين، وغيرها من المنظمات، هي تلخيص البيانات حول الهجمات الإلكترونية المتأتية من الدول على اختلافها، ومساعدة الدول الأعضاء المشاركين على تبادل المعلومات والخبرات. لكن في نظر موسكو، فإنّ ذلك لا يحصل كما هو مرسوم أو متفق عليه.

تعتبر موسكو أنّ شركة "FIRST" مثلاً، علقت التعاون من جانب واحد مع المراكز الروسية في عام 2022، أي بعد الحرب الأوكرانية. وهذا قرار في نظر الأوساط الروسية، يثير تساؤلات حول مبادئ الحياد والموضوعية والتعاون المفتوح، بين الخبراء والمنظمات في مختلف الدول، وهو سلوك لا يتناغم مع المبادئ التي تتغنى به تلك المنظمات. بل هو تأكيد على أنّ تلك المنظمات "تعمل لصالح الدول الراعية لها"، ومن خلال ذلك يبدو أنّ جهود هذه المنظمات يتقاطع مع المصالح السياسية للدول الغربية.

ترى موسكو أيضاً، أنّ واشنطن تراهن من خلال رفض المعاهدة أو عرقلتها، للحفاظ على قيادتها السيبرانية للعالم، وكذلك من أجل فرض تطلعاتها السياسية على عمل المنظمات من خلال طريقة معالجتها لـ"الحوادث السيبرانية"، وهو ما يتعارض بشكل كبير مع أهداف إنشاء مثل هذه المنظمات، بل يتعارض مع مفهوم المعاهدة ومضمونها.

بالإضافة إلى ذلك، ترى موسكو أنّ هذه المنظمات تعمل على أساس تجاري، هدفه الربح، وتنسّق أعمالها مع وكالات الاستخبارات الأميركية، مما يجعل أعمالها في صلب التوجهات السياسية الأميركية التي تحاول إلحاق الضرر بالبنية التحتية الحيوية، لأيّ بلد تسعى واشنطن إلى استهدافه أو تختلف معه في وجهات النظر السياسية.

تراكم الإجماع لولادة المعاهدة
مع طرح المسودة الروسية للمعاهدة، أيّدها عدد من البلدان، باعتبارها تسعى إلى تشكيل "قاعدة" أو "نقاط تواصل" في إطار الأمم المتحدة، عبر فريق عمل عالمي. إلاّ واشنطن لم تكن راضية عن ذلك في ما يبدو، لانّ "سياسة أحادية القطب" التي ينتهجها البيت الأبيض تتعارض مع التطلعات الروسية.

لكن برغم ذلك، تؤكد موسكو أنّ هذه المسودة لها ميزة رئيسية، هي "الحياد السياسي". فهذا الحياد سوف يضمن مصالح جميع الدول المشاركة في صياغة تلك المسودة، من أجل ولادة "المعاهدة" في الأمم المتحدة، وتكون قادرة على صون سيادة دول العالم كلّها.

ولهذا، ترى موسكو أنّ فريق العمل التابع للأمم المتحدة مهمته اليوم "بالغة الحساسية"، لأنّها "ضمانة" من أجل بلوغ "أعلى مستوى" من أمن المعلومات، خصوصاً أن الخطأ في إسناد أيّ حادث إلكتروني إلى أيّ جهة دولية، قد يؤدي في نظر موسكو، إلى "تصعيد التوترات الدولية"، وربّما تقود تلك التوترات إلى مواجهات وربّما حروب لا تُحمد عقباها.

فريق العمل العالمي في نظر روسيا، هو "منبر مثالي" للتفاوض بشأن أمن المعلومات والأمن السيبراني، في ظروف صعبة كتلك التي يمر بها العالم اليوم، وقد وأثبت أهميته. وعلى المدى الطويل، هذا الفريق سيكون قادراً على "خلق قنوات اتصال دبلوماسية" وظيفتها البحث عن طرق وأساليب من أجل تطوير العلاقات بين الدول في الفضاء السيبراني، الآخذ في التوسع والدخول في حياة البشرية جمعاء.