خبر

هكذا بدّد بوتين أحلام الغرب... واستفاد من وجود "فاغنر" في بيلاروسيا

عماد الشدياق نقلاً عن "إيلاف"

بملامح ملؤها الاستياء، لكن لا تخلو من الهدوء، أطل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مساء الإثنين، وذلك في أول كلمة علنية له منذ إنهاء الأزمة مع زعيم مجموعة "فاغنر" يفغيني بريغوجين يوم السبت الفائت.

بوتين أكد خلال الخطاب على أنّ المجتمع الروسي كلّه "توحد خلف قيادته"، كما كشف أنّ ما أقدمت عليه "فاغنر" كان سيتم إحباطه "على أيّة حال"، وهو ما يعني في لغة السياسة، أنّ أفق تحرك زعيم "فاغنر" كانت مسدودة منذ البداية، لكنّ الكرملين تمهل في اختيار الأفضل من بين أسوأ الخيارات.

مما لاشك فيه أنّ خطوة بريغوجين بالزحف نحو موسكو كانت مجنونة. فهو اعتبرها في حينه "مسيرة اعتراض لا تستهدف القيادة السياسية في روسيا"، لكن حتى اللحظة ما زالت تلك الخطوة غير مفهومة الأهداف ولا حتى الأبعاد. كما أنها جاءت بتوقيت مُبهم وغير مبرر: لأنّ القوات الروسية كانت تصدّ هجوماً أوكرانياً مضاداً بدا فاشلاً، باعتراف الدول الغربية الداعمة لكييف، مع عدم قدرة الجيش الأوكراني على بلوغ نصف المسافة الفاصلة عن أولى خطوط الدفاع الروسية (باعتراف صحيفة "نيويورك تايمز") وهذا ما أوحى بأنّ ما قام به بريغوجين، إن لم يكن مدفوعاً بضغوط أطراف غربية، فإنّه بلا شكّ كان يتماهى مع أهداف تلك الأطراف وتطلعاتها.

لكن برغم هذا، استطاع الكرملين التعامل مع تحركات بريغوجين "المبهمة" بحذر شديد، وتمكن من تخطّي هذه التجربة الهجينة بنجاح، مظهراً حنكة سياسية منقطعة النظير، على الرغم من محاولات الإعلام الغربي إظهار سلوك الكرملين على أنّه ضعفٌ أو ضررٌ لصورة روسيا وبوتين في الخارج.

وعليه، لا بدّ من تسجيل مجموعة من الملاحظات عمّا حصل خلال تلك الواقعة، بدءاً من مساء السبت ووصولاً إلى خطاب بوتين يوم الإثنين، وهي على الشكل التالي:

1. خطوات بوتين الحذرة والهادئة، أظهرت تماسكاً داخلياً. هذا التماسك برز على مستوى عالٍ من التوحّد بين صفوف المجتمع الروسي والسلطة التنفيذية وتلك التشريعية بل على جميع المستويات، حيث اتخذت المنظمات العامة والطوائف الدينية والأحزاب السياسية والقيادية بأسرها، موقفًا حازمًا لدعم النظام الدستوري، ما أظهر أنّ الجميع في الداخل الروسي متحدون حول مصير روسيا وسلامتها.

2. بعد إحباط التحرّك مساء الأحد، حاول الإعلام الغربي تكثيف الأخبار على صورة بوتين "المكسور"، لكن الواقع يقول إنّ من انسحب من الأراضي الروسية إلى بيلاروسيا هو يفغيني بريغوجين ومقاتليه، وليس بوتين. أي أنّ بريغوجين هو من ترك بلاده وخسر كل ما أسّسه في الداخل الروسي من نفوذ وشركات، لاجئاً إلى دولة مجاورة، وهذا يظهر حجم الضخّ الإعلامي وقدراته على التلاعب في الرأي العام العالمي.

3. ربمّا كانت الدول الغربية تطمح إلى استغلال خطوة بريغوجين المتهورة من أجل تعظيم الأزمة في الداخل الروسي، ومن أجل استغلالها في الميدان الأوكراني. أي ترجمتها على شكل ضعفٍ وتراجعٍ في أداء الجيش الروسي في أوكرانيا لصالح تقدم كييف في هجومها المضاد. لكن هذا لم يحصل، نتيجة الهدوء والصبر الذي أظهره الكرملين.

4. ظهر الغرب متحمساً لخطوة بريغوجين، بل بدا وكأنه يشجعه على المزيد من التهوّر، وهذا يدّل إلى حجم الاستعصاء العسكري الذي أظهرته روسيا في أوكرانيا مؤخراً. في المقابل، فقد كشفت حماسة الغرب أيضاً حجم امتعاضها على عجز القوات الأوكرانية في النجاح بهجومها المضاد، على الرغم من الكمّ الهائل من الأسلحة والمساعدات التي حصلت عليها ولم تتوقّف إلى اليوم من أجل هذا الغرض (الثلاثاء أعلن البنتاغون عن حزمة إضافية بنحو 500 مليون دولار).

5. الاندفاعة الغربية وحماسة الدول الأوروبية والولايات المتحدة لنجاح بريغوجين في مناورته، كانت مبكرة ومفضوحة، إلاّ أنّ تلك الحماسة، أيضاً، اختفت وتراجعت بعد أن لمَسَ الغرب في ما يبدو، أنّ خطوة بريغوجين محكومٌ عليها بالفشل. عندها، تراجع الغرب. ثم بدأ بإرسال إشارات ورسائل معاكسة تؤكد بأنّ ما اقترفه بريغوجين "شأن داخلي روسي"، ثم خرجت واشنطن متأخر بتصريح يفيد بأنّها نصحت أوكرانيا بـ "عدم استهداف الأراضي الروسية"، وذلك حرصاً منها على عدم الظهور بموقف المنحاز لطرف دون آخر (بعد ذلك أعلنت عن بدء تنفيذ عقوبات ضد "فاغنر" قد يُكشف عنها هذا الأسبوع).

6. وسائل الإعلام الغربية، وخصوصاً وكالات الأنباء العالمية مثل "رويترز" و"فرانس برس" و"أسوشيايتد برس"، لم تتوقف عن الضغّ الإعلامي والتجييش عن قرب اقتحام موسكو، وعن شكوك اختفاء وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، وعن احتمال هرب بوتين إلى سان بطرسبورغ منذ مساء السبت وحتى ظهر الأحد. ثم فجأة، توقفت تلك الحملات بعد ظهور بوادر عن قرب تراجع بريغوجين. عندها عادت الوكالات والوسائل الإعلامية الغربية نفسها إلى التعامل مع الحدث بشيء من الواقعية.

7. التفاف عدد كبير من دول العالم حول وحدة الدولة الروسية وقيادتها، قوّض إلى حدّ كبير، اندفاعة الغرب وحماسته في تزكية النيران في الداخل الروسي، وخصوصاً بعد موقف دول الجوار مثل بيلاروسيا وكازاخستان وأوزباكستان وإيران، وكذلك مواقف دول الخليج التي أبدت حرصها على سلامة روسيا، وكان في طليعة تلك الدول، الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر، ثم لاحقاً الاتصال الهاتفي الذي أجراه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع بوتين، وثناؤه على حسن تصرّف القيادة الروسية في حينه، وتنويهه إلى دعم المملكة للنظام الدستوري في روسيا.

8. في هدوئه، استطاع بوتين أن يدفع التُهم من الداخل الروسي إلى الخارج، بعد أن اتهم "المتمردين والنازيين الجدد في كييف وداعميهم الغربيين"، بقتل الجنود الروس. ليس هذا فحسب، فقد استفاد بوتين استراتيجياً من انتقال مجموعة "فاغنر" إلى بيلاروسيا (بمعزل عن ملامح الخلاف مع بريغوجين اليوم) وذلك من خلال خلق "تهديد" إضافي للغرب، وخصوصاً لأوكرانيا، بعد أن وجّه التحية لعناصر "فاغنر" ممن "حقنوا الدماء" برفضهم القتال بمواجهة الجيش الروسي، كما دعاهم بوتين باعتبارهم "وطنيين روس"، إلى توقيع عقود مع وزارة الدفاع... وبذلك أظهر بوتين أنّه قادر على الاستفادة من وجود هؤلاء في بيلاروسيا (نحو 25 ألف عنصر)، خصوصاً بعد أن أمست تلك المجموعة اليوم على مسافة أقرب من العاصمة كييف، وهذا ما بدأت الدول الغربية وصحفها التحذير من تبعاته.

9. كان يمكن للجيش الروسي أنّ يصدّ تقدم مجموعة "فاغنر" قبل تقدّمها بكيلومترات عدّة نحو موسكو، لكنّه لم يفعل بقرار من بوتين شخصياً، حسبما أوحى خلال خطابه. إلاّ أنّ ذلك بلا شكّ كان سيتسبب بشرخ كبير داخل المجتمع الروسي، الذي لم يبدِ يوماً عداءه للمجموعة، باعتبارها عنصراً داعماً ومسانداً للجيش الروسي. فلو فعل الجيش الروسي ذلك (صدّ التقدّم) لكان أطلق شرارة لما يشبه "الحرب الاهلية"، إلاّ أنّ بوتين تمهّل وتروى في اختيار خطواته. حتى لو أصابت خطواته تلك سُمعة روسيا الخارجية، إلا أنها حتماً عرضية وعابرة، بل سخيفة وغير ذات قيمة، مقارنة بأهمية السلم الأهلي الروسي وحماية المواطنين الروس.