خبر

هل كانت واشنطن أو أحد حلفائها خلف هجمات "نورد ستريم"؟

عماد الشدياق نقلا عن "عربي 21":

تبادل الغرب وروسيا تُهما غير مباشرة على خلفية الهجوم الذي استهدف خطوط أنابيب "نورد ستريم" في بحر البلطيق. الولايات المتحدة تقول إنّه من المبكر اتهام موسكو في الحادث، لكن في الوقت نفسه يتحدث إعلامها (CNN) عن مشاهدة غواصات وسفن حربية روسية قبل الهجوم بأيام. وفي حين تصف موسكو الهجوم بـ"الارهاب الدولي" و"التخريب غير المسبوق"، تؤكد أنّ واشنطن هي المستفيد الأول من تبعات الهجوم، الذي وقع في منطقة "تحت السيطرة الكاملة" لأجهزة الاستخبارات الأمريكية.

غياب الأدلة والبراهين الحاسمة عن الجهة التي نفذت الهجوم، تجعل اتهام أيّ طرف من الطرفين أمرا في غاية الصعوبة، لكنّ تعاقب الأحداث منذ بداية الحرب الروسية- الأوكرانية إلى اليوم، يجعل الاتهام السياسي الموجه للولايات المتحدة أو لأحد حلفائها من بين دول أوروبا الشرقية، أمرا أكثرَ منطقية، وذلك للأسباب التالية:

أولا، تملك روسيا صنبور أنابيب "نورد ستريم 1" و"نورد ستريم 2"، الذي يمكّنها من إقفال الغاز المرسل إلى القارة الأوروبية ساعة تشاء، وقد سبق أن فعلت ذلك من قبل. ومن ثم، لا حاجة لها لتخريب الأنابيب التي باتت مؤخرا "سلاحا قاتلا" بيد الكرملين في مواجهة أوروبا والغرب، وبذلك تكون كمن يجرّد نفسه من هذا السلاح، خصوصا أنّ شركة "غازبروم" الروسية تملك نصف خط الأنابيب إلى جانب المساهمين الألمان والفرنسيين والهولنديين، وأنّ هذه الخطوط كانت من ضمن خطط موسكو لإعادة بناء العلاقات الاقتصادية مع أوروبا فور انتهاء الحرب مع أوكرانيا، ولهذا ليس لموسكو حجّة من أجل تفجير خطوط الأنابيب التي تنقل غازها إلى القارة الأوروبية.

ثانيا، أظهرت موسكو اهتماما وغضبا شديدين من الهجوم، ودعت مجلس الأمن إلى فتح تحقيق دولي بالحادث، وهو عكس ما قامت به الولايات المتحدة التي التزمت الهدوء، وأبدت شديد الحذر حيال هذا التطوّر، وقالت؛ إنّ الوقت ما زال مبكرا للتكهّن بمن كان وراء الحادث، وذلك على لسان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن.

ثالثا، عِلم الولايات المتحدة المسبق باحتمال وقوع هجوم كهذا، يضعها في خانة الاتهام، خصوصا بعد أن حذّرت واشنطن حلفاءها الأوروبيين (بمن فيهم ألمانيا) خلال فصل الصيف، من أنّ خطّي أنابيب "نورد ستريم 1" و"نورد ستريم 2" قد يواجهان تهديدات ويتعرضان للهجوم، وذلك وفق معلومات كان مصدرها وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) في حينه. لكنّ هذه التحذيرات بقيت غامضة، ولم توضح الوكالة من هي الجهة المحتملة لتنفيذ هذا الهجوم أو متى سيحدث ذلك. وكانت صحيفة "دير شبيغل" الألمانية أول من كشف عن تلك التحذيرات الأمريكية.

رابعا، مقطع الفيديو المصوّر للرئيس الأمريكي جو بايدن خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتز قبل اندلاع حرب أوكرانيا بأيام، الذي يقول فيه: "إذا غزت روسيا الأراضي الأوكرانية لن يكون هناك نورد ستريم 2"، وبدا حاسما في إنهاء الأمر من دون أن يكشف عن الوسائل المتبعة لذلك، مكتفيا بالقول: "أعدكم، سنكون قادرين على فعل ذلك".

خامسا، يلمح المسؤولون الأمريكيون بشكل مستتر إلى أنّ أوكرانيا، أو ربّما إحدى دول البلطيق، كانت خلف هذا الهجوم، خصوصا تلك الدول التي عارضت منذ فترة طويلة خطوط الأنابيب، فيشيرون إلى مصلحة تلك الدول في رؤية الأنابيب معطلة، للتقدّم خطوة إضافية على طريق تدويل الصراع الدائر مع روسيا، خصوصا بعد ضمّ الأقاليم الأربعة يوم الجمعة الفائت. وقد عزّز الإعلام الأمريكي من احتمالات هذه الفرضية، بأسلوب مقصود وغير مقصود، حينما استبعدت أكثر من وسيلة إعلامية أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مستعدا لاستخدام القوة ضد شركة "غازبروم" الروسية.

سادسا، تريّث دول أوروبا الغربية، وخصوصا ألمانيا، في اتهام موسكو بتخريب خطوط الغاز، يحمل الكثير من الإشارات؛ إذ بدا وكأن تلك الدول تكبت في نفوسها علامات استفهام وهواجس من احتمال تورّط جهات حليفة بالهجوم، ما خلا بولندا وأوكرانيا اللتين ألقتا باللوم علانية على روسيا منذ اللحظات الأولى.

سابعا، تغريدة وزير الخارجية البولندي السابق راديك سيكورسكي، التي قال فيها: "شكرا للولايات المتحدة"، مرفقا صورة لتسرّب فقاعات الغاز في بحر البلطيق. هذه التغريدة عززت من تلك الشكوك، خصوصا بعد أن نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية عن الوزير السابق، أنّ "نورد ستريم يتجاوز بولندا، ويعمّق اعتماد القارة الأوروبية على روسيا"، وأنّ الحكومات البولندية المتعاقبة "تمزق عروقها من أجل وقف نورد ستريم". وأبدى سعادته الغامرة لتضرره، مفضلا القول بعد حذف التغريدة: "من كان خلف الهجوم، هم حلفاء بولندا أكثر من أن يكونوا أعداءها".

ثامنا، الخلافات بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وألمانيا حول الأنابيب نفسها. ففي حينه، فرضت إدارة ترامب عقوبات على صادرات السيارات الألمانية إلى أمريكا، وطالبت برلين بإغلاق "نورد ستريم 2"، كما طالب ترامب بتعزيز القدرات العسكرية للاتحاد الأوروبي بشكل مستقل عن حلف "الناتو". يومها، دعت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، السلطات في بلادها إلى "القتال من أجل مستقبلها بنفسها"، وقال النائب الألماني رولف موتزينيتش؛ إنّ مطلب ترامب "يؤثر على الشركات الألمانية والأوروبية، ويمثّل تدخلا في شؤون أوروبا الداخلية". وكذلك وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعوة إلى الاتحاد الأوروبي؛ للاستعداد من أجل مواجهة روسيا أو الصين أو حتى أمريكا.

تاسعا، وهو الأهمّ، فإن الهجوم يعود بفائدتين على الولايات المتحدة، ففي خضم التصعيد العسكري لحلف "الناتو" ضد روسيا في أوكرانيا، قد يساعد الهجوم في تأجيج المزيد من الدعاية المناهضة لروسيا، ومن ثم يجعل أوروبا أكثر اعتمادا على واردات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي لتحل مكان الغاز الروسي، خصوصا أنّ الأرقام الصادرة من إدارة معلومات الطاقة الأمريكية قبل مدة، تظهر أنّ متوسط صادرات الولايات المتحدة على أساس يومي من الغاز إلى القارة الأوروبية، قد ارتفعت لأكثر من 12 في المائة في الأشهر الستة التي تلت بداية الحرب الأوكرانية، حيث حصلت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على قرابة 71 في المائة من صادرات واشنطن من الغاز، ليصبحا بذلك أكبر مستورد للغاز الأمريكي، متخطيان قارة آسيا. وهو ما أكدته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في مؤتمر صحفي، حول أنّ واشنطن ستكون قادرة على زيادة مبيعاتها من الغاز إلى أوروبا، إذا توقف استخدام أنابيب "نورد ستريم".

في التحليل السياسي، فإنّ هذه الأسباب كلّها تعزز من فرضية ضلوع واشنطن أو أحد حلفائها (بالوكالة) في الهجوم على خطيّ أنابيب "نورد ستريم 1" و"نورد ستريم 2"؛ لأنّه بكل بساطة، قد يتوافق مع أهداف واشنطن الرئيسية من الحرب الدائرة في أوكرانيا اليوم، وهي أهداف قد تضع أوروبا تحت سيطرة الولايات المتحدة مجددا، وبشكل أعظم.

ولعل أصدق ما قيل في هذا القبيل، كان ما أعلنت عنه المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل قبل أيام، إذ ذكّرت بأنّه ينبغي ألّا يغيب عن بال ألمانيا: "ماذا سيكون عليه اليوم التالي"، فدعت قيادة بلادها إلى التفكير جيدا في "ما لا يمكن تصوره في الوقت الحالي"، وهو العودة إلى بناء العلاقات مع روسيا من جديد!