خبر

الإعلام ينظر بعين واحدة إلى أوكرانيا

عماد الشدياق - الجزيرة.نت

ينحاز الإعلام -وخصوصا الإعلام الغربي- لصالح أوكرانيا بالكامل، فينظر إلى الحرب الدائرة على أراضيها في مواجهة الجيش الروسي بعين واحدة لا ترى إلا الجيش الروسي. قد يكون هذا أمرا مفهوما نظرا لأنّ كييف حليفة أوروبا والولايات المتحدة، وهي في موقع الدفاع وليس الهجوم، لكن ما لا يمكن فهمه هو سبب تستّر وسائل الإعلام الغربية، والبعض من وسائل الإعلام العربية، على تجاوزات يرتكبها الأوكرانيون، وعلى وجه التحديد المليشيات المسلحة التي تقاتل إلى جانب الجيش الأوكراني، خصوصا بحق الصحفيين الأجانب والعرب وكلّ من يعتبرونه غريبا عن أوكرانيا.

إن تغاضي بعض وسائل الإعلام عن تجاوزات تخصّ معركة يعتبرونها معركة "حقوق الانسان" و"حرية التعبير"، يُعدّ صفعة تُوجّه لهذه العناوين وللمعايير المتبع في التغطية الإعلامية. عناوين ما انفك الغرب يقاتل من أجلها.

هذا التستّر إن كان عن قصد أو عن غير قصد (ويبدو عن قصد طبعا) يعني أنّ العالم الغربي المتحضّر يمارس ازدواجية في المعايير، ويعني أننا عدنا إلى شعارات تشبه "لا شيء يعلو فوق صوت المدفع"، وإلى مبدأ الأقدر على إيصال صوته للعالم هو الوحيد على حق، وهناك شواهد كثيرة على هذه التجاوزات الأوكرانية سُجّلت منذ بداية الحرب إلى اليوم، ومنها تعرُّض للصحفيين الأجانب، التضييق عليهم واعتقالهم، منعهم من التغطية بحرية. كل هذا لم يحظَ بالتغطية الإعلامية الكافية.

آخر هذه الحوادث كان اختفاء مراسل قناة "الميادين" في أوكرانيا، الصحفي اللبناني عباس صباغ، ثم ظهوره في العاصمة اللبنانية بيروت فجأة. اختفى صباغ بلا أيّ صخب أو أيّ تبرير واضح.

أوساط المحطة في بيروت -وهي محطة مقرّبة من النظام في إيران- بررّت غيابه بإصابته بفيروس كورونا، وقالت إنّه "بخير لكنّه يخضع للراحة"، لكنّ المعلومات المستقاة من الداخل الأوكراني، أفادت في ذلك الوقت بأنّ صباغ اعتقله جهاز أمني اوكراني في 13 مارس/آذار 2022، وبقي لأيام لا يُعرف عنه شيئا، وقد عاد لاحقا إلى بيروت من دون معرفة الأسباب.

ظهر صباغ في أول تغطية إعلامية في مدينة خاركيف، ثم غادر بعد ذلك إلى مدينة لفيف غرب أوكرانيا ثم اختفى هناك. أمّا أسباب اعتقاله، فتكشف المعلومات أنّ الاعتقال جاء على خلفية الأسلوب المتبع من المحطة بتغطية الأحداث التي ترى المصادر أنها "تقول كل شيء"، وتتكلم بلغة لا ترضى عنها أوكرانيا. كما تُرجّح المصادر أن يكون الأمر "تصفية حساب قديم" معه، نتيجة تقرير سابق أعدّه قبل مدة وتحدث فيه عن ارتكابات لـ “الكتائب القومية الأوكرانية" بحقّ السكان المدنيين، وبمساعدة "المرتزقة المشاركين في الصراع اليوم"، والمتفلتين من أيّ ضوابط نظامية وينخرطون في عمليات النهب.

صباغ الموجود بمنزله في بيروت، فضّل عدم الخوض بهذه التفاصيل واكتفى بنفيها. لعلّ صباغ خائف من ردود الفعل، ويرفض الإفصاح عمّا حصل معه في أوكرانيا بالتفاصيل لحرصه على الإقامة الأوكرانية التي يحملها، ويرفض أن يخسرها.

أمّا صمت المحطة، فيوحي هو الآخر بأنّ ما حصل مع مراسلها حقيقيّ وصحيح، لكنّ الإفصاح عنه من عدمه "يبقى ملكها"، وذلك وفق ما ينقل عن أحد المقّربين منها ويقول إنّها هي الجهة التي تقرر الإفصاح عما حصل مع مراسلها من عدمه، في حين أنّ أوساطا سياسية لبنانية متابعة للملف الإيراني، ذهبت إلى ربط قصة صباغ وصمت المحطة المقرّبة من الحرس الثوري الإيراني، بقرب توقيع اتفاق فيينا النووي. فربّما في نظر المحطة الوقت غير مؤات لفتح خلاف مع الغرب أو الأميركيين الآن؛ نتيجة "حادث عابر" من هذا النوع، خصوصا أنّ مراسل المحطة خرج من الأراضي الأوكرانية سالما.

لكن بمعزل عن كل هذه التفاصيل، فإن قضية صباغ، تفتح النقاش واسعا حول التركيز الذي يمارسه الإعلام على الجانب الروسي فقط، وإهمال ما يحدث من تجاوزات في أوكرانيا من الأوكرانيين أنفسهم أيضا. إذ تكشف معلومات الكثير من الصحفيين العرب والأجانب -الذين سنحت لهم الفرصة بالذهاب إلى أوكرانيا ثم العودة سالمين- عن كثير من التجاوزات المخيفة هناك.

أحد مراسلي محطة واسعة الانتشار في العالم العربي عاد قبل أيام من أوكرانيا، كشف الكثير من التفاصيل حول العمل الصحفي في أوكرانيا في ظل الحرب. يقول هذا الصحفي إنّ "مجمل أوكرانيا هي بيئة خطرة جدا للتغطية الصحفية". ولا ينفي التعاطي الأوكراني الرسمي اللائق مع الصحفيين، لكن يعتبر أنّ هذه اللياقة تبتعد عن الأصول كلما ابتعدت عن المراكز الرسمية، فثمة مناطق يسيطر عليها المسلحون مثل "كتيبة آزوف" وغيرها من المليشيات المسلحة والمرتزقة، ويصفها بـ"المرعبة". ويضيف "هناك، أنت ممنوع من أن تقوم بتصوير الشوارع، وحتى ممنوع من التجول".

صحفي عربي آخر زار أوكرانيا خلال الحرب وعاد منها، أكد أنّ "كتيبة آزوف" والمليشيات المسلحة يعاملون الصحفيين الأجانب معاملة سيئة، فإذا كان الصحفي يحمل أجهزة تصوير تشبه الأسلحة من بعيد، "فهو معرّض للقتل". وهناك أيضا "يدققون بجوازات السفر وهوية كل صحفي خلال التغطية"، وبعضهم أوقفته أجهزة الاستخبارات الأوكرانية بتهم "كسر حظر التجول"، وقد تعرّضوا للاعتقال، كما تعرّض بعضهم الآخر للضرب والمضايقات تحت عنوان "الاشتباه بأنهم من المخربين".

في نظر الاوكرانيين، فإنّ المخربين ينالون عقابا غريبا يُعتبر تقليدا في أوكرانيا، إذ يتمّ تقييد "المخرّب" أو "الخائن" بأحد أعمدة الكهرباء أو الأشجار في العراء لساعات بلا ملابس، ويتنمّر عليه المارة ويصورونه بهواتفهم الجوالة موجهين له اللكمات والصفعات. هذا التقليد في أوكرانيا هو بمثابة "عقاب مجتمعي"، لكنه يعرض صاحبه إلى أزمة نفسية كبيرة، وقد تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من هذه الفيديوهات من من دون أن تلتفت لها وسائل الإعلام بشكل جدي.

الصحفي نفسه يروي خلال وجوده في أوكرانيا، كيف أن زميلا من أحد المحطات العربية اختفى لمدة يومين، ثم ظهر لاحقا وقد تبيّن أن الاستخبارات الأوكرانية اعتقلته لمجرد أنه حمل هاتفه الخلوي في أحد الشوارع، فنشبت مشادة كلامية بينه وبين عناصر من هذا الجهاز، ثمّ اعتقلوه لعدم قدرته على التواصل معهم. ويرجّح هذا الصحفي الذي عاين الأرض في أوكرانيا أن يكون مراسل قناة "الميادين" قد تعرّض لمعاملة مماثلة، ويرى أن تخطي هكذا تفصيل من المراسل ومن المحطة هو "أمر خطير".

يقول الصحفي "يكفي أن يسحبوا منك الهاتف ويبحثوا به حتى يتهمونك ألف تهمة وتهمة"، ويضيف "ذات يوم اعتقلوا أحد الزملاء العرب واقتادوه إلى مركز التحقيق، ثم أطلقوا سراحه مجردا من ثيابه كلها، قصة هذا الزميل معروفة بين جميع الصحفيين الذين زاروا أوكرانيا خلال الحرب".

في نظره، فإنّ سبب هذه التجاوزات هو انتشار السلاح بين المواطنين، حيث يروي كيف وزعت السلطات الأوكرانية في بداية الحرب آلاف قطع السلاح الفردي على الأوكرانيين من أجل حماية الأحياء، وهذا ما جعل الدخول بين أحياء العاصمة "بيئة خطرة لكلّ أجنبي لا يتكلم الأوكرانية". ويقول "بعض المراهقين بعمر 16 أو 17 سنة يحملون السلاح، وهذا قد يتسبّب بحوادث إطلاق نار على الناس عشوائيا، تماما مثلما حصل مع أحد مراسلي محطة "سكاي نيوز" (Sky News) الناطقة باللغة الإنجليزية". مبينا أن عمليات التغطية الصحفية كانت تحصل بشكل جماعي وفي الوقت نفسه من أجل "الحماية الجماعية"، ومشددا على أنّ عامل اللغة يلعب دورا كبيرا في عدم القدرة على التفاهم مع المسلحين.

صحة هذا الكلام تظهر جلية في منشور على "فيسبوك"، كتبه مراسل قناة "العربي" القطرية بعيد وصوله إلى لفيف قبل أيام، يقول المراسل "الدرس الأول في أوكرانيا خلال زمن الحرب، هو كيف تلفظ أسماء المدن. لا، ليس هذا ترفا، بل ضرورة للبقاء، بما أن الخطأ يكلّف كثيرا هنا. لفوف يعني لفظا روسيّا لاسم لفيف يجب عدم استخدامه. لم أتعلم بعد الفرق بين "كييف" و"كي يٍف"، أو كيف تلفظ "أوديسا"، ولكنّني أحاول باجتهاد قبل التوجّه إلى نقطة أخرى".

لعل هذه الحوادث تعيد إلى الذاكرة خبر مقتل صانع الأفلام برانت رينو بداية الحرب في أوكرانيا، الذي كان يعمل قبل سنوات مع "نيويورك تايمز" (New York Times)، وقُتل بنيران قيل إنّها مجهولة.

بداية وُجهت أصابع الاتهام للقوات الروسية، لكن تبيّن أنه لا وجود للروس في تلك المنطقة، وضاعت الحقيقة بين زحمة المسلحين غير النظاميين، من دون أن تحظى قضية هذا الصحفي البريء بالتغطية الإعلامية اللازمة، ومرّ مقتله في وسائل الإعلام الغربية مرور الكرام.