لا نبالغ في توصيف الواقع القضائي غير المحرّر من الهيمنة السياسية على قاعدة 6 و6 مكرر، إذ بات للفساد حصّة "حرزانة" في مجال ملاحقة بعض القضاة، الذين سخّروا ضمائرهم وحكموا بغير ما يفرضه القانون والضمير المهني، وهذا ما يشكو منه عدد لا بأس به من القضاة النزيهين والنظيفي الكفّ، وهم لا ينفكون يطالبون بإحترام مبدأ فصل السلطات وتحرير السلطة القضائية من الوصاية السياسية، حتى تتم محاسبة الفاسدين داخل الجسم القضائي لتنقيته وتنزيهه، قبل الإنتقال إلى مكافحة الفساد في الخارج.
وفي هذا المجال يرى مصدر قضائي متابع ومن خارج السلك الحالي، أن أمور البلد لن تستقيم ما دامت السلطة القضائية خاضعت للسلطة السياسية، وهذا الخضوع يأخذ أشكالًا مختلفة، سواء من حيث الأداء أومن حيث السلوك، إذ غالبًا ما يكون القاضي الفاسد مغطًى من جهة سياسية نافذة.
ويتابع هذا المصدر في السياق نفسه أنه إذا لم يوضع حدّ لتمادي التدخلات السياسية في مسار الأحكام القضائية فعبثًا التفتيش عن الوسائل التي يمكن من خلالها إنقاذ الوطن من آفة الفساد، التي يشكو منها الجميع من دون إستثناء، وكأن الفاسدين ينتمون إلى كوكب آخر أو كأنهم اشباح غير مرئيين، يسرحون ويمرحون ويعيثون في الأرض فسادًا وتخريبًا من دون أن يطالهم أحد.
وفي رأي هذا المصدر أن الخطوة الأولى في الإصلاح القضائي يكون بتحرير التشكيلات القضائية من التدخلات السياسية، إذ لا يُعقل أن يكون القاضي الذي يعيّنه هذا السياسي أو ذاك الزعيم غير خاضع لمن كان السبب في تعيينه في منصبه، وهو بالتالي يجد نفسه ملزمًا بمسايرته، ولو على حساب قناعاته المهنية، الأمر الذي يقودنا إلى الإستنتاج بأن "الحكم العادل" يبقى مرهونًا بمصالح السياسيين، الذين لا يزالون يتغنون بما كان سائدًا في الماضي حينما كان يُقال عن هذا الزعيم القوي بأنه قادر على "فكّ حبل المشنقة"، يعني أن له باعًا طويلة في الجسم القضائي، بحيث يمكنه تبرئة المتهم وإتهام البريء.
وينهي المصدر إياه حديثه بالإشارة إلى أنه في حال صدقت النوايا وتمكّن رئيس مجلس القضاء الإعلى والمدعي العام التمييزي، بالتنسيق مع وزيرة العدل، من وضع حدّ لتدخلات السياسيين في التشكيلات المفروض أن تصدر في أسرع وقت، يكون القضاء قد خطا خطوة جبارة في مسيرة إستقلاله التام، وبالتالي يمكنه الإنتقال إلى تطهير الجسم القضائي، تمهيدًا لتفرغه لمكافحة الفساد.
إلاّ أن التمنيات شيء والواقع شيء آخر، إذ عادت التدخلات السياسية لتفعل فعلها في الجسم القضائي، وهذا يعني أننا لا نزال ندور في حلقة الفساد المغلقة ذاتها، وهذا الأمر يضرب أي إمكانية للولوج إلى دولة القانون والمؤسسات، ولكن وعلى رغم هذه التدخلات، التي يرفض "أبطالها" التنازل عنها، لن تضعف عزيمة الذين قرروا الإنتفاضة على هذا الواقع، ويُرجّح أن تكون كلمتهم هي الفيصل في التشكيلات القضائية، إذ لا عودة إلى الوراء، أيًّا تكن الأثمان.