الدولة اللبنانية تتراجع عن 'الانتقام' من أصحاب 'الجرائم البسيطة'!

الدولة اللبنانية تتراجع عن 'الانتقام' من أصحاب 'الجرائم البسيطة'!
الدولة اللبنانية تتراجع عن 'الانتقام' من أصحاب 'الجرائم البسيطة'!
"تنتقم" الدولة اللبنانية من أي شخص يرتكب جرماً على أراضيها، بصرف النظر عن نوعه وحجمه، بشكل قاس وناسف لحقوق الإنسان ومفهوم العدالة الإجتماعية. ليس في هذا التوصيف مبالغة أو افتراء، فمن لا يعرف واقع السجون في هذا البلد، فإنه مدعوّ إلى تصفح الإنترنت وقراءة بعض التقارير المحلية والدولية كي يتأكد له أنّ تلك المعتقلات أشبه بغرف تعذيب متعدد الأوجه على شاكلة ما كان يستخدمها سفاحو الحروب والإبادات على مرّ التاريخ. وليس واقع السجون مع كلّ ما تعانيه من مشاكل بنيوية وصحية وتأهيلية وقانونية وحده "الفضيحة"، بل أيضاً مقاربة هذه الدولة لمفهوم العقوبة بحيث يروق لها أن تقتصّ من المجرم من دون أن تفكّر في إعادة تأهيله وتغيير سلوكه، ومن دون أن تضع خطة مستدامة عنوانها العريض "تخفيف الجرائم وحماية المجتمع".

لكن منذ بضعة أيام، سجّل لبنان إنجازاً في هذا الملف. قد تكون أخبار الموازنة العامة والبحث عن وسائل لجباية الأموال والتقشف قد حجبت وهج ما أقدم عليه مجلس النواب عندما أقرّ قانونا تقدم به رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل يرمي إلى إستبدال عقوبة الحبس في جرائم بسيطة بعقوبة إجتماعية، لكنّ هذه الخطوة تضع الدولة اللبنانية والعدالة الجنائية في لبنان على السكة الصحيحة.

في حديث لـ "لبنان24"، تشرح المستشارة القانونية للنائب سامي الجميّل لارا سعادة أنّ القانون يرمي الى استبدال عقوبة الحبس في بعض الجرائم البسيطة التي لا تتجاوز عقوبتها السنة أو الحبس التقديري، بعقوبة إجتماعية وهي عبارة عن عمل اجتماعي في احدى الجمعيات".

 وإذ تلفت سعادة إلى أنّ "الهدف من العقوبة الجنائية عادة هو تحقيق أمرين: أولاً معاقبة المجرم على ما اقترفه، وثانياً تأهيله بغية تغيير سلوكه حتى لا يعود إلى العمل الإجرامي عندما ينتهي من محكوميته"، معقبة:" فيما يبقى الهدف النهائي من العدالة الجنائية حماية المجتمع والحدّ من عدد الجرائم قدر المستطاع".

لا تخفي سعادة أنّه "يتمّ التركيز في لبنان على الجزء العقابي والانتقامي أكثر من موضوع الإصلاح وإعادة التأهيل، للأسف. وحدهم الأشخاص تحت سنّ الـ 18 من يحظون بفرص إعادة التأهيل في الإصلاحية".

وتؤكد سعادة أنّ "السجون في لبنان لا تراعي المعايير الدولية وهي باتت مراكز للعقوبة تُخرّج في معظم الأحيان أفراداً أكثر إجراماً وحقداً وكآبة"، إضافة إلى ما تعانيه من مشكلة اكتظاظ كبيرة.

من هنا، هدف القانون إلى التخفيف من الاكتظاظ خصوصا في جرائم بسيطة جدا ولا تشكل أي خطر على المجتمع، بالإضافة إلى الحؤول دون وضع الاشخاص خصوصا الشباب الذين ارتكبوا جرائم بسيطة مع مرتكبي الجرائم الخطيرة مثل تجار المخدرات والقتلة والمغتصبين حتى لا يتأثروا سلبا خلال فترة وجودهم في السجن.

"والعقوبة الإجتماعية ( community service) هي نوع من العقوبات البديلة التي يكون العنصر التأهيلي فيها أساسي"، بحسب سعادة. ولعلّ أهمية هذا القانون تكمن في أنه الأول من نوعه في لبنان، إذ تغيب عادة العقوبات البديلة، على الرغم من أنّ لجنة حقوق الإنسان النيابية سبق وناقشت عدّة مقترحات متعلقة بوضع عقوبات بديلة تواكب تطوّر العصر وتراعي المعايير الدولية وحقوق الإنسان، "لكن للأسف، لم تصل هذه النقاشات والمقترحات إلى خواتيم سعيدة بسبب الأوضاع التي يمرّ بها البلد من تعطيل من هنا وإسقاط لحكومة من هناك…"، تقول المستشارة القانونية.

الوظيفة الإجتماعية بدلاً من الحبس

وتشرح سعادة أنّ القانون يتحدث عن جرائم لا تتخطى عقوبتها سنة واحدة، علماً أنّ السنة السجنية المحتسبة هنا هي 12 شهراً لا 9 أشهر، ولا يحتسب القانون أيضاً الأحكام المخفضة بل العقوبة الأساسية.

ويعود للقاضي طبعاً أن يحكم بالوظيفة الإجتماعية بعد أن يدرس الملف وينظر في نوع الجرم غير الشائن وأسبابه ودوافعه كما في وضع المرتكب، علماً أنّ هذا القانون لا ينطبق في حال التكرار.

تشرح سعادة:" نتحدث مثلاً عن شاب قام بتدخين سيجارة حشيشة لأول مرة في حياته، أو عن أحد متهم بتخريب الأملاك العامة، أو عن رجل سرق رغيف خبز لإطعام أطفاله، أو شاب دهس عن طريق الخطأ شخصاً آخر وسبب له جروحاً طفيفة...إنها بضعة أمثلة عن الجرائم التي يمكن أن تستبدل عقوبتها بالوظيفة الإجتماعية، مع إعادة التأكيد على أنه للقاضي أن يحكم في نهاية المطاف بحسب ما يملكه من معطيات.

وأهمية هذه "العقوبة"، بحسب سعادة، تكمن في أنّ المرتكب سوف يختبر بنفسه، عن قرب، خطورة الجرم الذي ارتكبه، وبذلك بغيّر سلوكه ويخدم المجتمع في الوقت عينه". كيف ذلك؟!

تجيب سعادة أن وزارتي العدل والشؤون الإجتماعية سوف تضعان في المرسوم التطبيقي للقانون لائحة بالجمعيات والمؤسسات الموثوق بها التي سوف تستقبل المحكومين لتأدية "وظائفهم". مثلاً، من المفترض إرسال شاب تعاطى الحشيشة إلى مراكز تعنى بالتخلّص من الإدمان، أو إرسال شخص عرّض فرداً آخر للأذية إلى مراكز معالجة الأطفال المصابين بالسرطان أو جمعيات تعنى بالسلامة المرورية حتى يدرك قيمة الحياة...

اللافت في هذه العقوبة البديلة أنها تُخفّض حكماً مدة المحكومية، فمقابل كلّ يوم في السجن سوف يقضي المحكوم 8 ساعات عمل في "الوظيفة".

لكن، ماذا عن الرقابة؟ وكيف يمكن، في بلد مثل لبنان، ضمان تطبيق هذا القانون بما يخدم أهدافه الأساسية والحؤول دون التحايل على تنفيذ هذه العقوبة البديلة كما يجب؟!

تجيب سعادة أن "القانون ينصّ على أن ترفع الجمعيات والمؤسسات المتعاونة والمتعاقدة مع وزارتي العدل والشؤون، تقارير دورية عن وضع المحكوم عليه ومدى تجاوبه وتقيّده بالشروط والوظائف المطلوبة منه، علماً أنّ أي مخالفة تصدر عنه قد تعيده فوراً إلى السجن. وتقول سعادة أنه من مصلحة تلك المؤسسات والجمعيات التي تحصل على دعم ماليّ من الدولة إنجاح هذه التجربة والحرص على القيام بهذا الدور على أكمل وجه.

وتختم سعادة بالتأكيد على أن إقرار هذا القانون هو تدبير فريد من نوعه في مسار الإصلاح والعدالة الجنائية، مقدمة مثالاً عن أهمية هذا النوع من العقوبات البديلة الإصلاحية، فتروي أن قاضية في ولاية أميركية حكمت على أشخاص قاموا بكتابة عبارات عنصرية ومحرضة على الإبادة على أحد المنازل، بإجبارهم على قراءة حوالي 40 كتاباً يتناول مواضيع التمييز العنصري والعرقي والإبادات، على أن يقدموا لها شهرياً ملخصاً وتعليقاً حول كلّ كتاب، وبعد انقضاء "فترة المحكومية"، ذُهل الجميع بما أدلى به هؤلاء الشباب وكيف أنهم غيّروا من تفكيرهم وندموا على ما فعلوه. "ماذا لو قررت زجّهم في السجن أولاً"، تسأل سعادة مشددة على أهمية العمل على إصلاح الفرد وإعادة تأهيله، وليس بالضرورة خلف القضبان الحديدية!

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى