تترقّب بيروت زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو للبنان في وقت تُرسم الخريطة الاقتصادية – السياسية المستقبلية لـ”بلاد الأرز” التي تعيش وضعاً اقتصادياً متدهوراً لم تشهد مثيلاً له في تاريخها.
وترى أوساطٌ سياسية أن مردّ هذه الأزمة الاقتصادية ليس فقط إلى الفساد الذي انتشر بين الطبقة الحاكمة ثم بين الطبقات الأخرى، بل أيضاً إلى الحصار الاقتصادي الذي تفرضه أميركا على إيران وحلفائها كحزب الله والتضييقات التي تترتّب وستترتّب على لبنان لاحقاً إذا لم يسِر في خطى السياسة الأميركية المرسومة للمنطقة، ما دام الرئيس دونالد ترمب في الحُكم. إلا أن هذا الحصار الذي سينوء تحته لبنان قد يدفعه إلى أحضان الصناعة الإيرانية البديلة والتسليح الروسي إذا وَضَعَ بومبيو لبنان في الزاوية وهدّد، على غرار ما فعل ممثّلوه الذين زاروا لبنان، بالمعادلة الأميركية الشهيرة: إما معنا وإما ضدّنا.
ويُعتقد أنه في ظلّ الوضع السياسي اللبناني المنقسم بين تياريْن، واحدٌ داخِل الفلك الأميركي وآخر في المقلب المناهِض له، فإن من المتوقّع أن يشتدّ هذا الإنقسام إلى درجةٍ من المحتمل أن ينفجر فيها الشارع اللبناني مطالباً بإسقاط سياسات أميركا ومَن يتحالف معها في البلاد. إلا أنّ هذا من المحتمل تَفاديه في حال ضخّ الحلف الموالي لأميركا في الشرق الأوسط المال والمشاريع لإعادة الحياة إلى المريض اللبناني (الاقتصاد) الموجود في غرفة العناية الفائقة. لكن هذا مستبعَد في ظل الخوف من أن يستفيد الجزء الموالي لإيران من الوضع إذا تَحَسّن، ما يدل على أن لبنان سيشهد تطورات تهزّه اقتصادياً الأمر الذي سيؤدي إلى عدم استقرار أمني طويل.
قبل العام 1982 كانت قيمة الدولار الأميركي تساوي ثلاث ليرات لبنانية. ليس لأن الاقتصاد اللبناني كان في أوجه بل لأنّ منظمة التحرير الفلسطينية كانت تصرف عشرات الملايين شهرياً في لبنان على أفرادها وعلى العائلات الفلسطينية المقيمة في لبنان. وكذلك كانت تفعل التنظيمات الإنسانية الأممية المعنية بشؤون اللاجئين الفلسطينيين. وبخروج منظمة التحرير بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، ارتفعتْ قيمة الدولار تدريجاً ليتجاوز في مرحلة معيّنة ثلاث آلاف ليرة لبنانية قبل أن ينخفض ويتم تثبيته في أوائل التسعينات على ما هو اليوم (نحو 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد).
وحضرتْ إيران إلى لبنان، ليسجّل العام 2000 مستوى عالياً من الدعم المادي الإيراني لحزب الله بعد تحقيق الانسحاب الإسرائيلي. إلا ان هذا الدعم بلغ ذروته في مرحلتين: الأولى العام 2006 بعدما أَفْشَلَ حزب الله الأهداف الإسرائيلية لحرب يوليو والتي تمثّلت بسحْب سلاح الحزب ومنْع وصول صواريخه إلى الداخل الإسرائيلي.
أما المرحلة الثانية فكانت العام 2013 عندما استجاب حزب الله لطلب الرئيس بشار الأسد بالتدخل في سورية لمنْع تقسيمها وإفشال مخطط إيجاد فوضى تحكمها. وهنا ضخّت إيران الأموال الطائلة كي تمنع “داعش” واخواته من الانتصار في سورية والعراق والتوجّه نحو إيران بعد ذلك. وذهبتْ هذه الأموال إلى سورية وحزب الله الذي قاتل هناك واحتاج الى دفع أكلاف نقل قوات وطعام ودعم لوجيستي وبدَل سفر لقواته ما ساهم بانعاش الاقتصاد اللبناني والحفاظ على العجلة الاقتصادية لأن موازنة حزب الله تجاوزت 100 مليون دولار شهرياً.
إلا أن وصول ترمب الى السلطة ورفْضه الاتفاق النووي وفرْضه أقسى عقوبات على إيران ووقْفه المساعدات المالية للتنظيمات الإنسانية الدولية المعنية بدعم ومساعدة الشعب الفلسطيني اللاجئ خارج بلاده تَسبّب أيضاً بخفض موازنة حزب الله إلى مستوى متدنٍّ. وبالتالي فقد اعتمد الحزب على سياسة التقشف على صعيد القوات في سورية والإنفاق داخل لبنان للأفراد إن كان على مستوى النقل أو الدواء وتكلفته أو المساعدات والهدايا الشخصية التي كان أفراد هذا التنظيم يتلقّونها. وقد أعاد الحزب النظر بكل موازنته لتنخفض إلى الربع من دون أن يتسبب ذلك بصرْف أي مقاتل متفرّغ أو متعاقد وذلك بأمرٍ من أمينه العام السيد حسن نصرالله شخصياً.
أما سياسة شدّ الحبال فستنعكس بالضرورة على الاقتصاد اللبناني الذي أصبح يعاني انخفاض السيولة النقدية والعملة الأجنبية. وفي تقدير خبراء أن هذه التداعيات ستظهر أكثر فأكثر في الأشهر المقبلة ما سيتسبّب بردة فعل داخلية في الوسط اللبناني الذي يرى أن اقتصاده ينهار شيئاً فشيئاً.
فقد منعت أميركا وكذلك لحقتْها أوروبا تحويل الأموال إلى لبنان إلا إذا استطاع المحوِّل تبرير التحويل تجارياً. ويُعتبر لبنان أحد الدول على اللائحة السوداء للمصارف الدولية التي تفرض رقابة خاصة على التحويلات الأجنبية منه وإليه. ولا يستطيع أي مموّل أو متمكّن مالياً من إرسال “أموال شرعية” إلى لبنان مهما صغر أو كبر المبلغ خوفاً من الملاحقة القانونية.
وسياسة التقشف هذه ستبقى تلاحق لبنان ما دام ترمب في السلطة. ويَتوقّع حزب الله (وكذلك التقدير الإيراني) أن ترمب ستُجدَّد له لولاية ثانية مع التمني أن يكون هذا التقدير خطأ، ما يُنْذِر بأن السنوات الخمس المقبلة ستكون شبه كارثية اقتصادياً على لبنان وخصوصاً أن بومبيو يأتي بتهديد لا يستطيع هذا البلد تحمّله.
أولاً – يتعلق بالحدود المائية مع اسرائيل. وهذا ما لا يقبل به لبنان الذي يَعتمد على صواريخ حزب الله لمنْع إسرائيل من اغتصاب المياه اللبنانية في البلوكات 8 و9 و10 الحدودية على خط الناقورة.
ثانياً – يريد بومبيو من لبنان أن يتخلى عن حزب الله ويحدّ من سلطته ومشاركته في السلطة. وهنا أيضاً يقفز الأميركي فوق واقع أن هذا الحزب لديه وزراء ونواب في السلطة التشريعية والتنفيذية وأن شرعيةَ سلاحه يستمدّها من البيان الوزاري الذي نالت الحكومة على أساسه ثقة البرلمان اللبناني والذي يتمسك به رئيس الجمهورية.
فما البديل؟ ثمة مَن يعتقد أنه إذا دخلتْ دولٌ نفطية إلى لبنان لإيجاد البديل فهي لن تستطيع ذلك لأن الأموال شحّت على الصعيد العربي والدولي خصوصاً أن لبنان يحتاج إلى عشرات المليارات وليس ملياراً أو خمسة مليارات لإنعاشه. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الدول قد لا تجد مصلحة في تعويم حكومة تدعم أو توافق على وجود حزب الله في صفوفها. وبما أنه لا يمكن نزع جزء من المجتمع اللبناني (حزب الله) عن الآخَر، فإن أي تدخّل خارجي لن ينفع وسيفشل ولن يستطيع إنقاذ لبنان.
وبالتالي فإن الخيارات أصبحت قليلة: التوجه نحو إيران لإنشاء المعامل المناسبة بأقلّ تكلفة ممكنة لخفض الأسعار الشرائية للكثير من السلع. الاعتماد على روسيا لدعم الجيش اللبناني إذا تراجعتْ أميركا وحلفاؤها عن دعمه. الاعتماد على الصين لتدخل الى لبنان وسورية من خلال البوابة اللبنانية لإنشاء مشاريع طويلة الأمد لمنْع “بلاد الأرز” من الانضمام الى نادي الدول الفقيرة المُعدمة.
مستقبلٌ قاتمٌ للبنان، سببه فشل أميركا في سورية والعراق ومنْع مشروعها لـ”الشرق الأوسط الجديد” واستيقاظ الدبّ الروسي من سباته العميق لينافس “العم سام” على زعامة الشرق الأوسط. وهذا ما دفع ترمب لاستخدام كل أسلحته في محاولة لتركيع الدول الممانِعة له والتي من الممكن أن تتّجه نحو روسيا. إنه صراعٌ حيث لا شيء ممنوع استخدامه وكل المحرّمات مباحة ولبنان يتجه بخطوات سريعة داخل عنق الزجاجة حيث المَخارج أصبحت معدومة.