أكد رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة أن “لا شك في أن العالم يشهد تحوّلات كبرى ولديه مصالح ليست بالضرورة متلائمة مع بعضها البعض بل وفي كثير من الأحيان هي متنافرة ومتنافسة. كما أن العالم يبحث عن ساحات تستطيع القوى الدولية أو الإقليمية استخدامها لممارسة صراعها وتَنافُسها، وتالياً لتحسين مواقعها”.
السنيورة وفي حديث عبر “الراي”، تابع، “الحقيقة أن عالَمنا العربي شهد خلال الفترة الماضية مزيداً من الخلخلة ما نتج عنه فعلياً تَراجُع التضامن والتعاون بين مكوّناتِه ودوله، وهو ما أدى في المحصلة إلى وجود حال فراغ في المنطقة. ونعلم أن الطبيعة تكره الفراغ، وتالياً هناك مَن يحاول ملء هذا الفراغ بممارسة نفوذه بطريقةٍ أو بأخرى، ويسعى إلى استخدام هذه الساحات”.
وقال، “نحن نعاني مشكلاتٍ عميقة منذ عقود عدة في المنطقة، وهي مشكلات تَسبّبتْ بها أنظمةُ الاستبداد في العالم العربي والفشلُ في إيجاد حلول للدول الوطنية، ما سمح بوجود هذا الصراع، وهو أمر أعتقد انه غير قابل للاستمرار، فالطريقة الوحيدة لمعالجة هذه المشكلات المتضخمة والمتعاظمة هي العودة إلى المنطلقات الأساسية”.
ولفت الى أنه “يجب أن نميّز بين أمرين: أولاً إسرائيل عدوّة، والعرب ما زالت لديهم قضية أساسية هي القضية الفلسطينية وهي القضية الكبرى لجميع العرب الذين تَقدّموا في قمة بيروت العام 2002 بالمبادرة العربية للسلام، وعلينا التأكيد على هذه المسألة نظراً لمحاولة إسرائيل الضغط من أجل تصفية القضية الفلسطينية وقضية اللاجئين، وتالياً إنهاء فكرة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وفقاً لحدود العام 1967 وعاصمتها القدس. هذه هي المشكلة والأولوية التي تعنينا والتي يجب معاودة رص الصفوف على أساسها. ثانياً، لدينا خصومة حقيقية بين دولٍ عربية وبين دولتين إقليميتين، وإن كانت هناك فروق كبيرة في طبيعة وحدّة الخلافات بين الدول العربية وإيران وبين الدول العربية وتركيا”.
وبالنسبة إلى إيران، قال، “هي على حدودنا الشرقية، وتالياً لدينا مشكلات ناجمة عن إمعانها بالتدخل في الشؤون الداخلية وإثارة الفتن وشحن الخلافات الطائفية والمذهبية واستعمال نظرية تصدير الثورة على أساس ما يسمى بولاية الفقيه العابرة للحدود السياسية، وفي ذلك مخالفة كبيرة جداً لمنطقٍ دولي ساد على مدى قرون عدة ويقوم على وقف النزاعات الناتجة عن التدخلات من الدول الإقليمية بعضها مع بعض”.
وأضاف، “يجب أن يصار إلى بناء قناعة جديدة في التعامل مع إيران على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الدول العربية ورفْض النظريات التي تؤدي إلى مزيد من التفسّخ والشرذمة داخل الصف العربي. فثمة مصلحة مشتركة لإيران والدول العربية على أكثر من صعيد، لكن ذلك يتطلب اعترافاً وإدراكاً من إيران بأن المسار الذي تعتمده لا يوصلها الى أي نتيجة، بل هو مسار تدميريّ لثقافتنا العربية والإسلامية، وتدميريّ للجهود والطاقات ولن يُنْتِج أي شيء في المحصلة، لأنه لا يمكن لإيران أن تصل إلى ما تحاول أن تدّعيه من أن لديها أربع دول عربية تذعن لتدخلاتها ولسلطتها. هذا الأمر لن يتحقق، وما تقوم به إيران فعلياً سيؤدي الى مزيد من التدمير الذاتي والتدمير لجيرانها وخسارة الطاقات والفرص الكبرى”.
وأردف، “يجب أن يسود فكرٌ جديد مبني على إعادة فتح الجسور الحقيقية بين إيران والدول العربية، وأعتقد أنه يجب أن تتوافر الإرادة لدى إيران كي نمدّ اليد لها على أساس الإقرار بأن ليس هناك إمكانية للعلاقات بين المجموعة العربية وإيران إلا على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.”
وأوضح، “لم يعد في مقدور الدول العربية الاستمرار في هذا التشرذم الذي يؤدي إلى مزيد من الإطباق الذي تمارسه كلّ من إيران وتركيا فيما يخص ما يجري الآن في سوريا، فهذا الأمر لم يعد مقبولاً على الإطلاق. وأعتقد أن الوضع العربي أصبح يقتضي جهداً أكبر يمكن أن تبذله الجامعة العربية ودول عربية تتمتع بالقدرة والاحترام والمقبولية من الدول العربية الأخرى للعمل من أجل إيجاد الحد الأدنى من التضامن الذي يمكن أن يبنى عليه من أجل صوغ موقف عربي جامع يؤكد على مصالح العرب المشتركة وعلى موقفهم الواضح والصريح والحازم والحاسم تجاه القوى الإقليمية، إن كان ذلك بالنسبة إلى إسرائيل أو بالنسبة إلى إيران وتركيا”.
وقال، “أستطيع القول إن جزءاً من الانتفاضات في العالم العربي كان ناتجاً عن حالٍ من اليأس والغضب والشعور بالمهانة والتهميش، وتالياً حاولت أن تعبّر عن نفسها لكنها سقطت في استدراجاتٍ من هنا وهناك واستُعملت لتصبح مطية لبعض الأنظمة ولتدخلات إقليمية ما أدى إلى تدمير الدولة الوطنية وتدمير مجتمعاتنا العربية. يجب ان يصار إلى الخروج من هذه الحال عبر ما يُسمى العدالة الانتقالية أو المرحلة الانتقالية ليتاح أمام الناس اختيار من يستطيعون أن يتولوا شؤونهم العامة، وذلك بطريقة سليمة وصحيحة، وأن يصار إلى صوغ الدساتير الجديدة. وعلى الدول العربية القادرة أن تساعد في ذلك من أجل تمكين الدول المعنية من التغلب على هذه المشكلات الكبرى”.
وشدد على أن “اللبنانيين لم يدركوا حقيقةَ الفكرة الجامعة التي توصلوا إليها في الطائف والتي أنتجت اتفاق الطائف ودستور لبنان الجديد الذي استطاع مرة جديدة أن يبني على هذا التنوع اللبناني كي يصبح مصدر ثروة وغنى للبنان وللبنانيين وللمنطقة بدل أن يكون مصدراً من مصادر الاختلاف والخلاف. والحقيقة هنا أنه عندما أستشهد بالكلام الذي صدر عن قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني عندما قال إن لبنان هو رسالة أكثر منه وطن، فهذا الكلام لم يصدر عن شخص لا يدرك ماذا يقول، بل على العكس هذا الرجل استخلص الكثير من هذه الصيغة التي جعلتْ من لبنان ومن فكرة العيش المشترك بين اللبنانيين فكرةً جامعة للبنانيين ونموذجاً لعدد من الدول العربية المجاورة التي لديها هذا التنوع، وأيضاً نموذجاً لدول أخرى يمكن اقتباسه والاستفادة منه”.
وأردف، “إذا كان اتفاق الطائف يحمل رسالة لبنان، فإن الرسالة تتطلّب أن يكون هناك رسول يحملها ويبشّر بها ويؤكد على تبنيها واعتمادها. والمشكلة أن اللبنانيين لم يبذلوا الجهد الكافي كي يقوموا بدور الرسول. والأمر الثاني أن مَن أُعطي دور الوصاية لتنفيذ هذا الاتفاق لم يمارس هذا الدور بالشكل السليم. فالنظام الأمني السوري – اللبناني مَنع في المحصلة استكمال تطبيق اتفاق الطائف ومعالجة الأمور التي طرأت في عملية الممارسة كي يصار إلى التطبيق الصحيح والسليم، انطلاقاً من مسلَّمة قام عليها لبنان وترتكز على احترام إرادتين.”
وتابع، “نعرف أن لبنان عندما تأسس العام 1920 ومن ثم نال استقلاله، جرى صوغ اتفاق مبني على احترام سلبيتين: عدم المطالبة باتحاد لبنان مع سوريا أو العالم العربي، وعدم المطالبة بالاستمرار بالانتداب الفرنسي. وجاء دستور الطائف وبنى على إيجابيتين: انتماء لبنان العربي الثابت وأبدية الدولة اللبنانية وسيادتها واستقلالها، وثانياً جاء لبنان بنظام المجلسين، وجود مجلس نواب تشريعي يشرّع القوانين ومبني على احترام إرادة الفرد الذي يريد الأمن والحرية والعمل والخدمات والمدرسة والجامعة”.
وقال، “أعتقد أن البلد يحتاج إلى مواقف جازمة ممن يتولى المسؤولية في الدولة بالعودة إلى احترام القانون والدستور والدولة ومصلحتها ودورها وسلطتها ونفوذها واحتكارها لحمل السلاح، وهذا هو الملاذ لتصويب البوصلة ووضْعِها في مصلحة لبنان واللبنانيين وعلاقاتهم مع الدول العربية والنأي بالنفس عن الانغماس في الخلافات العربية التي ليس للبنان مصلحة فيها. وفي رأيي أن على لبنان ان يبتعد عن ممرّ الأفيال، لأنه غير قادر على مواجهة الصدمات الكبرى الآتية من الخارج”.
وقال، “لقد سمعنا كلاماً غريباً جداً من بعض المسؤولين يقول نحن نريد ان نعدّل الدستور بالممارسة. ما هذا الكلام عن تعديل الدستور، وهو أسمى القوانين، من طريق مخالفته؟ وكيف يقول أحدهم إن القانون الفلاني لا يعجبني ولذلك لا أريد تطبيقه؟ علينا أن نعود إلى الأساسيات، أي إلى احترام الدستور والقوانين ومصلحة الدولة الجامعة للناس، والعودة إلى احترام مصالح لبنان واللبنانيين في علاقاتهم مع الدول العربية، وإلى احترام استقلالية القضاء واحترام الكفاءة والجدارة في تحمُّل المسؤوليات”.
وتساءل، “ما هي هذه الأعراف المبنية على أنه لكل أربعة أو خمسة نواب وزير يمثّلهم؟ هذا لا علاقة له بالنظام الديموقراطي البرلماني. مَن يؤلف الحكومة هو الرئيس المكلّف بناءً على استشاراتٍ ملْزِمة يُجْريها رئيس الجمهورية. الرئيس المكلّف موجب عليه استشارة كل الأطراف ولكنه غير ملزَم على الإطلاق بأخذ مطالب هذه المجموعة أو تلك. هو ملزم بتأليف مجموعة متضامنة، متعاونة، متجانسة تستطيع أن تأخذ ثقة مجلس النواب وأن تحكم. الامتحان الذي يُعرّض له الرئيس المكلف هو مجلس النواب، وتالياً هو غير ملزَم بأن يلتزم برأي هذه المجموعة أو تلك”.
واعتبر ان “هذه المجموعة التي سُمّيتْ السنّة المستقلين جاءت بولادة قيصرية غير طبيعية. فهؤلاء الستة كانوا منتمين إلى كتلهم، ذهبوا الى استشارات التكليف المُلزمة على هذا الأساس ثم ذهبوا إلى الاستشارات مع الرئيس المكلف على هذا الأساس ايضاً، ثم فجأة ونتيجة لأوامر إقليمية أو تداعيات إقليمية، ظهروا على أنهم متكتلون. ورغم ذلك الرئيس المكلف غير ملزَم بتمثيلهم وبإمكانهم ألا يعطوا الثقة، وهذا هو الأمر الذي أوصَلَنا إلى أن الأمور معلّقة لأن هناك مَن لا يرغب في تشكيل الحكومة الآن، وكل يوم يأتي بأسباب مختلفة لعدم تأليف الحكومة”.