قبل يومين، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مُصراً على تهديد لبنان من بوابة "حزب الله"، إذ حذّر الأخير من "تخطي الخطوط الحمراء"، وقال: "إسرائيل مُصممة على محاربة أي محاولة من قبل الحزب لإظهار العدوان على إسرائيل من لبنان".
في الواقع، فإنّ الكلام الذي أسداهُ نتنياهو يترافق مع تحرّك عسكري للجيش الإسرائيلي عند الحدود الجنوبية، إذ شهدت منطقة مزارع شبعا، الأربعاء، مناورات عسكريّة تخللها قصفٌ مدفعي حيّ. والأساس وسط ذلك هو أن نتنياهو أسدى رسائل التهديد خلال تفقده الجبهة العسكرية الإسرائيلية المُحاذية للبنان، ما يعني أن الكلام جاء ممزوجاً برسائل كثيرة وعديدة لا يُمكن تجاوزها. ففي بادئ الأمر، فإنّهُ من البديهي جداً أن يُبادر نتنياهو، ومع إنطلاقة حكومتِه الجديدة، إلى إطلاق التهديدات ضدّ "حزب الله" والإيرانيين، فالأمرُ هذا يخدمهُ شعبياً ويضعهُ في خانة تجنبه تُهمة التنازل أو الخضوع. إلا أنه في الوقت نفسه، فإنّ نتنياهو يُدرك تماماً أن مسار التهديد الذي يُطلقه لن يؤدّي حقاً إلى حرب، علماً أن هذا السيناريو قائمٌ وبقوّة في حال تحققت الأسباب الموجبة لذلك.
أكثر من أي وقتٍ مضى، يُدرك نتنياهو أنَّ المطلوب دولياً هو أن تبقى الجبهة مع لبنان هادئة، وبالتالي فإنّ الكلام الذي يُطلقهُ ليس إلّا لاستثماره داخلياً وسياسياً. أمّا على الصعيد العسكريّ الإسرائيلي، فإنّ ما يتبيّن هو أنّ تل أبيب ليست في واردِ الهجوم اليوم، فمحاولاتها تكمنُ في تحصين خطوطها الدفاعية، والدليل الأكبر هو أنّه بين الحين والآخر، تنطلقُ مناورات لاختبار قدرات الجيش الإسرائيلي على الجبهات، وكأنّ الاستعدادات لأي هجومٍ يجب أن تكون في أوجها.
عملياً، فإنّ هذا الأمر يكشف عن أزمةٍ إسرائيلية داخليّة، وما يزيدُ الطين بلّة هو أنَّ الاستثمار العسكريّ الإسرائيلي بات يُعاني من تهالكٍ كبير وتحديداً على صعيد الروح القتاليّة. هنا، تنكشف الثغرة الكبرى إذ أن الإسرائيليين اليوم باتوا يخشون تعرضهم لأي هجومٍ عند الحدود مع لبنان، ما يعني أن مُبادرتهم للهجوم تراجعت، وبالتالي فإن الانكفاءَ أصبح حاضراً وبقوّة. أما في ما خصّ "حزب الله"، فإنّ مبادراته الهجوميّة التي تتجلى في الحرب النفسية التي يخوضها، إنما تكشف عن أنّ زمام الأمور بيده، وبالتالي أصبح هو من يتحكّم بما يُعرفُ بـ"قواعد الإشتباك" لا الإسرائيليين.
ولهذا، قد تكونُ المناورات التي تُجريها إسرائيل في الفترة الأخيرة بمثابة تأكيدٍ على أنها جاهزة لأي معركة رغم الهُدنة التي قيل أنها فرضت نفسها بعد ترسيم الحدود البحريّة. أما الأمر الأهم فهو أنّ ما تفعله إسرائيل عسكرياً يتقاطع مع حراكٍ لـ"حزب الله" أيضاً في الجانب المُقابل، وقد يكون الفيديو الأخير الذي أنتجه الحزب مطلع العام الجاري عن اقتحام مستوطنات الجليل بمثابة ردّ على أن المناورات الإسرائيلية القائمة لن تُجدي نفعاً، مهما كانت التحصينات كبيرة.
وأمام كل ذلك، فإنّ التهديدات التي أطلقها نتنياهو مؤخراً تحتاجُ إلى "تسييل" لتتحقق. وضمنياً، فإن رئيس وزراء العدو يُدرك تماماً أن فتح المعركة مع لبنان هو أمرٌ صعب، في حين أن "الهمّ الأكبر" لديه الآن هو تطويق ما يجري في الضفة الغربية داخل فلسطين المحتلة، وتجنّب أي صراعٍ مع قطاع غزّة، مع العلم أنّ الحراك العسكري لفصائل المُقاومة هناك ليس عادياً أبداً. ولهذا، ومن أجل "إثبات الوجود"، فإنّ سلوك نتنياهو وحكومته يكشف عن المسار التالي: أولاً البقاء على لغة "التهديد"، ثانياً: الإستمرار بالتدريبات العسكريّة المفاجئة والمُخطّط لها، وثالثاً: اللجوء مُجدداً إلى المنطقة التي يمكنه تسديد ضرباتٍ فيها من دون مواجهة أي ردّ مباشر، والمعني هنا سوريا والمواقع التي تقول إسرائيل إنها تابعة للحرس الثوري الإيراني و"حزب الله".
في الخلاصة، فإنّ مجمل التهديدات القائمة ليست إلا "كلاماً في الهواء" وبالتالي فإن هذا الأمر يكشف عن إرباك لدى نتنياهو، والأساس هو أنّ الإرادة الدولية تُحتّم استقراراً في المنطقة. وعليه، فإن تجاوز إسرائيل لهذا الأمر سيرتدُّ عليها سلباً في الوقت الراهن وتحديداً وسط انشغال الدول في إطفاء فتيل حرب أوكرانيا المُشتعلة.