تهيمن مخاوف تكاليف المعيشة على سياسات الدول الغنية، وفي بعض الحالات يُغض الطرف عن أولويات أخرى مثل إجراءات مكافحة تغير المناخ. ويزيد ارتفاع أسعار المواد الغذائية من حدة الفقر والمعاناة في البلدان الفقيرة، من هايتي إلى السودان ولبنان إلى سريلانكا، هذا ما اعلنته رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، أمس الاحد في مقابلة مع محطة "سي بي إس" الأميركية.
تحديات اقتصادية كثيرة ينتظرها لبنان في العام 2023، في ظل جنون الدولار، ارتفاع اسعار السلع والخدمات، وارتفاع نسبة التضخم فلبنان حل مؤخرا في المرتبة الأولى عالميا على مؤشر البنك الدولي لتضخم أسعار الغذاء، متخطياً زيمبابوي التي جاءت في المرتبة الثانية، وفنزويلا في المركز الثالث.
وفيما الازمة المالية والاقتصادية تشتد، فإن الترقب يبقى للاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي الذي سيفتح الابواب امام الاستثمارات الخارجية في لبنان، بيد أن تعطيل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي من شأنه ان يفاقم من الركود الاقتصادي.
يصف مدير "مركز إشراق للدراسات"الباحث في الشأن الاقتصادي الدكتور أيمن عمر في حديث لـ"لبنان 24" العام 2022 بعام وفاة النظام والنموذج الاقتصادي اللبناني كما أعلن البنك الدولي بأنه ولّى إلى غير رجعة، وهذا نتاج طبيعي لمسار متراكم لأزمة صنفها البنك الدولي أيضًا ضمن 3 أسوأ أزمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وفي ظل غياب أي معالجات حقيقية من قبل السلطات المسؤولة.
ولاستشراف الواقع الاقتصادي والاجتماعي في العام 2023 لا بد، بحسب الدكتور عمر، من قراءة بعض المؤشرات النقدية، الاقتصادية والمالية في نهاية العام 2022، بالإضافة إلى تحليل الواقع السياسي والأمني.
- المؤشر الأول هو سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، لأنه المؤشر الذي يُبنى عليه الكثير من المؤشرات الأخرى والتداعيات الاجتماعية مثل معدل التضخم والفقر وغيرهما. فسعر الصرف العام في العام2022 افتتح بـ 28,350 ليرة لكل دولار واختتمها بحدود 43,000 أي بزيادة في سعر الدولار مقابل الليرة حوالي 64%، فيما ازدادت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية التي يصدرها مصرف لبنان من 45.761 تريليون ليرة إلى 74.773 في منتصف كانون أول 2022 أي بزيادة حوالي 63.4%، مع ملاحظة نسبة الزيادة نفسها بين ارتفاع سعر الصرف وازدياد الكتلة النقدية بالليرة، وهذا أمر طبيعي. علما ان رفع سعر sayrafa ليصل الى 38000، قبل ايام من نهاية العام 2022 ليس الا محاولة لتقليل الفجوة ما بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق الموازية من اجل توحيد سعر الصرف، والذي من الصعب ان يتم في العام 2023 من دون تطبيق خطة تعافي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. مع الاشارة الى ان التداول على منصة صيرفة بلغ في العام 2022 أكثر من 12 مليار دولار.
ان تحديد أسباب هذا التدهور في سعر صرف الليرة، يحتم تحديد العوامل المؤثرة فيه، وهي تختلف بحسب "رئيس مركز اشراق للدراسات"، عن المحددات التقليدية لسعر الصرف في علم الاقتصاد. وإن كان سعر الصرف الآن متفلتًا ويخضع للعرض والطلب، إلا أن هناك 4 محددات تؤثر على العرض والطلب وبالتالي على السعر في السوق الموازية وهي :
اولا :الدولار في لبنان وهو سياسي.
ثانيًا :المضاربات.
ثالثًا :فاتورة الاستيراد.
رابعًا :شراء دولارات وتحويلها إلى سوريا.
في ظل هذا الاشتباك السياسيّ الحادّ والذي يتغلّف الآن بطابع مذهبيّ وطائفيّ، مع تفلّت أمني كبير، ناهيك عن تحلّل في الإدارات والمؤسسات العامة والخلافات السياسية الدائرة حول خطة التعافي المالي والاقتصادي التي اعدتها الحكومة ومشاريع القوانين الاصلاحية، اضف الى ذلك الصراعات الإقليمية والدولية وما لها من ارتدادات في الداخل اللبناني، مع عودة الحصار الاقتصادي، فإن الليرة معرّضة إلى مزيد من الاهتزازات والانهيارات. والمضاربون هم الأدوات الفعلية والعملانية للتلاعب بسعر الصرف لتحقيق أجندات سياسية ، يقول عمر.
لقد ارتفعت قيمة الاستيراد في العام 2022 إلى 19 مليار دولار لتصل إلى حدود ما قبل الأزمة وقبل جائحة كورونا، مما يُحدث مزيدًا من الضغط على الليرة واستنزاف الدولارات الموجودة في الداخل. أما العامل الرابع فهو شراء دولارات وتحويلها إلى سوريا فقد ازدادت في الآونة الأخيرة بسبب ازدياد الخنق والضغط الاقتصادي عليها أيضًا.
وبالعودة إلى المؤشرات الأخرى، ، فإن الارتفاع الكبير في معدل التضخم دخل في خانة الثلاثة أرقام بمتوسط 186% وهو من بين الأعلى معدلات عالميًا، كما يقول الدكتور عمر. فقد جاء ترتيب لبنان الأول عالميًا في مؤشر تضخم أسعار المواد الغذائية بنسبة 332% متقدمًا على زيمبابوي. فالفقر المدقع طاول 25% من الشعب اللبناني مع انخفاض في القدرة الشرائية للمداخيل والتي تخطت 95%.
- ويبقى المؤشر الأهم وهو الناتج المحلي الإجمالي ونسبة نموّه، فقد انكمش منذ العام 2018 إلى 37.3% وهو من أسوأ معدلات الانكماش التي شهدها العالم. وأخطر ما في الامر أن تحويلات المغتربين تساهم ب 37.8% من الناتج المحلي، بمعنى أن الاقتصاد هشّ لا يقوم على ماكينة اقتصادية ناشطة ولا على دورة اقتصادية فاعلة، انما مرتهن إلى الخارج وما يسمح به من تحويلات. وتعادل خسائر لبنان المالية 3 أضعاف ناتجه المحلي، أي تفوق قدرة لبنان على تحمل هذه الخسائر من دون مساعدات خارجية او دون نهوض اقتصادي فعّال. ولكن، بحسب الباحث الاقتصادي نفسه، ليس من مؤشرات حقيقية على عملية الاستنهاض عبر القيام بإصلاحات حقيقية وجدّية، مع تعدد الخطط التي بقيت في إطارها النظري في ضوء الاشتباك السياسيّ الحادّ، وبالتالي ضعف القدرة على تنشيط الماكينة الاقتصادية المحلية والدورة الاقتصادية مما يعني انخفاض الناتج المحلي وازدياد حالة الانكماش الاقتصادي. مما سينعكس على مؤشرين أساسيين وهما البطالة والهجرة. فالبطالة التي بلغت وفق آخر إحصائية 29.6% في كانون الثاني 2022، طاولت الشباب بالدرجة الاولى 47.8%. أما الهجرة فحدث ولا حرج، وتجدر الاشارة في هذا السياق الى ان عدد المهاجرين والمغادرين وصل بحسب الدولية للمعلومات منذ بداية العام 2022 وحتّى منتصف شهر تشرين الأوّل 2022 إلى 42,199 شخصاً مقارنة بـ 65,172 شخصاً للفترة عينها من العام 2021.
وسط ما تقدم يعتبر رئيس "مركز اشراق للدراسات"، أن النصف الأول من العام 2023 سيشهد استمرار السياسات والإجراءات نفسها القائمة على تمرير الوقت والمعالجات التخديرية الجزئية، حتى تأتي التسويات الكبرى ضمن سلّة متكاملة للنظام السياسي الجديد في لبنان بكل متفرعاته الاقتصادية وغيرها.