هل تخلت الديبلوماسية الفرنسية عن دور "الوسيط" على الساحة اللبنانية ؟ وهل يعني ذلك تراجع حظوظ الدور الفرنسي في لعب دور توفيقي سواء في الداخل او على الساحتين الاقليمية والدولية؟ اسئلة تطرح نفسها بقوة بعد موقفين بارزين للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، واحد في اتجاه طهران والآخر في اتجاه القادة السياسيين اللبنانيين.
في الشأن الداخلي اللبناني، ليست مواقف الرئيس الفرنسي جديدة، فهو يعبر عن خيبة أمل كبيرة في كل لقاءاته الخاصة بالشأن اللبناني حيال تعامل غالبية القادة اللبنانيين مع الاوضاع السياسية والاقتصادية الخانقة. هو يعرف ذلك جيدا منذ أجهض هؤلاء مسعاه غير المسبوق بعد ان زار بيروت مرتين الأولى بعد انفجار مرفأ بيروت في آب 2020 والثانية بعد ذلك بشهر عندما جمع عدد من القادة اللبنانيين حول طاولة مستديرة في مقر السفارة الفرنسية، ودعاهم للتفاهم على صيغة سياسية تسمح بتشكيل حكومة جديدة، وتمهد لحل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة. لكن ما الذي حصل؟ لا شيء حتى اليوم.
ووفقا لمصادر دبلوماسية غربية، فأن اعادة تظهير الموقف الفرنسي على نحو علني "وفج" هذه المرة جاء عقب عودة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من العاصمة الأردنية عمان، حيث شارك في مؤتمر «بغداد 2»، وهو خرج عن طوره من خلال الدعوة لضرورة تغيير القادة السياسيين وإزاحة الذين يعرقلون الاصلاحات، لانه لمس في القمة عدم وجود اي اهتمام جدي بالملف اللبناني، على الرغم من محاولاته الحثيثة لادراجه على جدول الاعمال، وهنا كان لا بد من تذكير القادة اللبنانيين بمسؤولياتهم وتذكير الشعب اللبناني ان التغيير لا بد ان يأتي من الداخل، لا انتظار الخارج الذي لا يبدو مستعجلا على وضع لبنان على سكة الخلاص. ولهذا يمكن التاكيد ان كلام مكرون ياتي في اطار الدفع لحل داخلي من خلال حض المسؤولين على تحمل مسؤولياتهم واللبنانيين للضغط وعدم "التساهل مع القوى السياسية، واضعا خريطة طريق واضحة للاصلاحالت من خلال إعادة هيكلة النظام المالي، ووضع خطة مع رئيس نزيه ورئيس حكومة نزيه وفريق عمل ينفذها.
اما التصعيد باتجاه طهران، فلم يأت من "فراغ"، فهو تعبير عن "يأس" فرنسي من التواصل مع الايرانيين الذي لم يفض الى شيء حتى الآن في اكثر من ملف اقليمي ولا سيما ملف لبنان. ففي20 ايلول الماضي في نيويورك وبعد أربعة أيام على وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني، مع بداية الازمة الداخلية في ايران، اصر الرئيس الفرنسي على لقاء نظيره الايراني ابراهيم رئيسي على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبحث معه مصير الاتفاق النووي وفشل في اخراجه من "الطريق المسدود". علما انه الرئيس الغربي الوحيد الذي حافظ على التواصل الدائم مع النظام الايراني وحاول إيجاد آلية للالتفاف على العقوبات الأميركية التي فرضها الرئيس الاميركي السابق دونالد ترمب. لكن الجهود الفرنسية لم تؤتِ ثمارها، بل على العكس فقد تراجعت العلاقات بين باريس وطهران، وهي اليوم سيئة للغاية، فباريس تطالب طهران باطلاق سبعة مواطنين فرنسيين مسجونين في إيران بتهم مختلفة، وتعتبرهم "رهائن" تستخدمها طهران للمساومة "والابتزاز". وماكرون يحمل طهران مسؤولية فشل المفاوضات، ولم يعد يمانع بنقل الملف النووي إلى مجلس الأمن الدولي ما يعني إعادة فرض العقوبات الدولية عليها بموجب آلية تلقائية لا تحتاج لقرار جديد من مجلس الأمن.
اذا نحن امام مرحلة تصعيد دولي اوقليمي تعكسها مواقف ماكرون الذي لم يتوان ايضا عن اطلاق دعوة علنية لبغداد لاتباع مسار آخر بعيدا عن ايران التي تربط بدورها البحث باي ملف بما تسميه وقف العبث بامنها قبل ان تمنح اي ضمانات في المنطقة او في الملف النووي. ولهذا ترجح السلطات الفرنسية ان يطول مسار التفاوض البارد- والساخن دوليا واقليميا، فاختار ماكرون التصعيد بعد ان فشل في تحقيق اي اختراق. وبراي تلك الاوساط، فان تصاعد التوتر مع طهران يعقد الامور في اكثر من ملف ومنها الساحة اللبنانية لان باريس كانت صلة الوصل الوحيدة بينها وبين الغرب، ولأن لا "طبخة" جاهزة بعد، فان الفرنسيين عادوا الى استراتيجيتهم القديمة التي اطلقها ماكرون بعد انفجار المرفأ"ساعدونا كي نساعدكم".