وسطَ التّرجيحات العديدة المُرتبطة باقترابِ موعد توقيع اتفاقيّة ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل، قد يبرزُ لاحقاً وبقوّة الحديثُ المُرتبط بسياقِ المَرحلة المُقبلة، وتحديداً حينما تُطوى صفحة الاتفاق بشكل كاملٍ بضمانات دوليّة ورعايةٍ أممية ووسط مظلّة عربيّة بارزة.
هُنا وبعد ذلك، سينتقلُ البحثُ جدياً إلى ركائز لا يُمكن تجاهلها أبداً، وترتبطُ بـ"حزب الله" بالدرجة الأولى و "القوّة" التي يحظى بها والتي فرضت تأثيراً مهماً في ملف التّرسيم. وعملياً، فإن الكلام هذا أشار إليه صراحةً رئيس الحزب "التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط قبل أيام في حديثٍ تلفزيوني، والذي أقر أيضاً بأنّ "لبنان بحاجةٍ دفاعياً إلى حزب الله"، وعند هذه النقطة يتركّزُ بيت القصيد.
في مرحلةٍ ما بعد التّرسيم، قد تُطرح بقوّة أوراق الاستراتيجيّة الدفاعيّة من جديد وتحديداً في حال انتخابِ رئيسٍ جديد للجمهوريّة. ففي الواقع، فإن الأخير مُطالبٌ بفتحِ هذا الملف الذي نادى بهِ جنبلاط مراراً في السابق كما غيره من السياسيين، إلا أن طريقة المُقاربة هذه المرة ستكون مختلفة استناداً لتجربة التّرسيم وما سيليها من استحقاقات.
حُكماً، من يقرأ إشارات ما بين السّطور في كلام جنبلاط إنّما سيستشرف تكريساً كبيراً لدور "حزب الله" لاحقاً على أصعدةٍ أخرى، وبالتالي قد لا تُهمّش الاستراتجية الدفاعية المقبلة أيّ مُندرجاتٍ تتعلق بالحزبِ ودورِه الدّفاعي، وذلك لاعتباراتٍ عديدة أساسها أنّ هناك سلسلة من النقاط التي تحتاجُ إلى "قوة ردع" مثل ترسيم الحدود البريّة ومزارع شبعا فضلاً عن الحماية المطلوبة لمنصات الغاز اللبنانية في البحر. ولذلك، فإن الحاجة إلى "حزب الله"، وفقاً لتطلّعات جنبلاط، ما زالت قائمة ومستمرّة ولن تنتفي أبداً خلال المرحلة اللاحقة، أي التي ستلي حقبة ترسيم الحدود البحرية الجنوبية. ولهذا، قرّر "البيك" الذهاب أبعد من ذلك وتحميل "حزب الله" مسؤولية ملف جديد يرتبطُ بترسيم الحدود الشمالية - بحراً وبراً - مع سوريا. وعلى هذا الأساس، سيكون التعاملُ مع الحزب، في حين أن النقطة الأساسية التي تحققت هي أن الأفرقاء المناوئين للأخير ثبّتوا معادلة الحاجة إليه، وهذا أمرٌ سيجري استغلاله كثيراً خلال المراحل الآتية، وتحديداً عندما يتمّ الحديث عن أي استراتيجية دفاعيّة.
إذاً، فإنّ المرحلة القادمة ستجعلُ التّقارب بين "حزب الله" وبعض الخصوم أمراً وارداً ولكن بـ"إطار احترازي" وغير مُمتدّ إلى "أجلٍ طويل". ومن دون أي مُنازع، قد لا يجنحُ البعض باتجاهِ تثبيت "قوة حزب الله" لأنها تتخطى الدولة، إلا أنه يمكن استخدامها لتحقيق مكاسب تُمهّد لاحقاً لطرحِ فكرة الإستغناء عن تلك القوة وذلك بعد الاستفادة منها وتحقيق ما يُراد من خلالها.
وإنطلاقاً من كل ذلك، قد يصفُ البعضُ مرحلة ما بعد الترسيم بـ"الفترة التي تحمل أوجه مُتناقضة".. فمن جهة، هناك حاجة دفاعية لـ"حزب الله" الذي استطاع أن يفرض قوّته في ملف اقتصادي وحيوي، في حين أنه من الجهات الثانية، ستبقى الاتهامات موجهة إليه عبر تحميله مسؤولية "انهيار الأوضاع". وعليه، فإن الأمور لن تكون سهلة وستبقى في إطار التجاذبات التي ستنسحب لاحقاً على مختلف الأمور الأخرى.. فإذا كان "حزب الله" قد أرضى البعض اليوم، فإن ذلك لا يعني "استمراراً" في التقارب السياسي، لأن المراحل تُطوى وتأتي أمور غيرها قد تجعل التقاربَ انقلاباً، والدّلائل التاريخية خير شاهد على ذلك منذ العام 2000، بعد تحرير جنوب لبنان من العدو الإسرائيلي وصولاً إلى العام 2005، العام الذي استشهد فيه الرئيس الشهيد رفيق الحريري والانقسام الذي شهدته البلاد، وصولاً إلى مرحلة حرب تموز 2006 التي "زادت من وهج حزب الله" بعدَ تراجعٍ وانقسام. أما المسار الذي ضرب نظرية الوهج فكانت في العام 2008 ومعركة 7 أيار التي انغمس فيها "حزب الله" بقوة، وصولاً إلى الحرب السوريّة وتدخل الحزب فيها بشكل علني.
ولهذا، فإن التأييد الحالي قد لا يبقى على حالِهِ وذلك نظراً لمجريات الحياة السياسية التي ستحمل معها لاحقاً عثراتٍ وعقبات كثيرة.. ومن هنا، تكمنُ نظرية سياسية مرتبطة بكيفية تماشي "حزب الله" مع الواقع اللبناني والتعامل معه من منطلق "الشريك" لا "المُتسلّط" كما يراه البعض. وهنا، قد يكون ملف انتخابات رئاسة الجمهورية بمثابة اختبارٍ جديد للحزب ولمساره.. وفي هذا الشقّ للحديثِ تتمّة!