يتقصّد رئيس الجمهورية ميشال عون إطلاق مواقفه بطريقة تبدو مفاجئة. هذا أسلوب عمله، ومن شأنه أن يباغت خصومه الذين يتوقعون منه كل شيء. إنها آخر المعارك التي يخوضها رئيس الجمهورية، هو الذي خاض معارك كثيرة عنوانها ميشال عون فقط.
ويخوض حالياً، معركة عنوانها جبران باسيل واستمراريته السياسية بعد انتهاء العهد. تلك المعركة ستكون مكلفة جداً داخل التيار وخارجه. ففي الداخل، تشهد الاستقالات والإقالات على حقبة جديدة مشابهة لحقبة إصرار عون على ترئيس باسيل للتيار بالتزكية في العام 2016، ما أدى إلى إخراج كثيرين من التيار. حالياً يخرج مسؤولون آخرون، فيما تدبّ الخلافات بين باسيل والكثير من النواب، الذين يعتبرون أنه لا يمكن حصر المعارك الرئاسية بباسيل وحده، فهناك نواب داخل التيار يعتبرون أنهم قادرين على إيصال شخصية من بينهم للرئاسة. هذه كلها تبقى تفاصيل أمام المشهد الأوسع.
وتضجّ الأوساط السياسية اللبنانية بأسئلة كثيرة حول ما يفكر به رئيس الجمهورية. وماذا سيفعل؟ يزيد عون على الأسئلة الكثير من الغموض. آخرها المعادلة التي وضعها حول مغادرته للقصر الجمهوري، رابطاً تلك المغادرة بما إذا كان 31 تشرين الأول “يوماً طبيعياً”. تقصّد عون عدم توضيح ماذا يعني بـ”الطبيعي” وما هو غير طبيعي، وهل ذلك يقتصر فقط على احتمال بقاء حكومة تصريف الأعمال لتسلّم صلاحيات الرئيس، وهذا ما سيرفضه هو؟
سيكون هناك حاجة ماسة إلى تعريف كلمة طبيعي، وما هو الطبيعي وغير الطبيعي؟ فهل يعقل أن يكون العهد قد مرّ بأكثرية أيامه بظل حكومات تصريف أعمال؟ وهل الطبيعي هو الطريقة التي أدير فيها ملف ترسيم الحدود؟ بل وهل الطبيعي الواقع الاقتصادي الذي وصلت إليه البلاد؟ وبحال لم يكن يوم الواحد والثلاثين من تشرين الأول طبيعياً، فهل سيحتّم ذلك حينها على رئيس الجمهورية البقاء في قصر بعبدا وعدم تسليم السلطة؟ ماذا سيستفيد الرجل وتياره من وراء ذلك غير الإطاحة بكل مقومات النظام اللبناني ودحره إلى الإنهيار الكامل؟ بعض خصوم عون يتمنون له أن يبقى في القصر بعد انتهاء ولايته، لأنهم يعتبرون حينها أن خطوته ستشكل ضربة قاسمة لتياره من بعده، ولن يجرؤ أحد على تكرار التجربة.
كان أحد الأسباب الرئيسية لسير سعد الحريري بتبني ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية كان الحفاظ على اتفاق الطائف، وحماية النظام اللبناني.. تحت عنوان أن مجيء رئيس مسيحي قوي قادر على حماية النظام ويكرس العمل السياسي داخل المؤسسات. ست سنوات بالتمام والكمال، أثبت رئيس الجمهورية أنه لم يقتنع بهذا النظام، وسعى يومياً إلى الانتقام منه وضربه وإنهائه. وهو في حال عدم خروجه من قصر بعبدا عند انتهاء ولايته سيثبت وجهة نظر معارضي سعد الحريري.
يبدو أن لدى التيار الوطني الحرّ مجموعة خططّ، من بينها النزول إلى الشارع لمطالبة عون بعدم المغادرة، أو مواكبته إلى الرابية، ومنها أيضاً تحركات شعبية كبيرة ضد منظومة أراد عون كسرها وزج أركانها في السجون. فلن يرضى على نفسه أن يخرج وهم يبقون في مواقعهم. ومن أبرز أهداف هذه المعارك أن البقاء في لعب دور سياسي لا يتم من خلال المؤسسات، إنما بانفراط عقدها وفرض وقائع الانهيار للوصول إلى تركيب صيغة جديدة. وقد أثبتت التجارب المشابهة للبنان أنه عندما يفتح نوع من النقاش حول النظام السياسي والبنيان الدستوري لأي بلد، لا يمكن لأحد أن يضبطه ويحصره في نقاط معينة، إنما يشمل كل القطاعات. وربما هذا أحد الرهانات الكبرى للتيار الوطني الحرّ.
إنها المغامرة الرابعة التي يخوضها ميشال عون، الأولى حرب التحرير، والثانية حرب الإلغاء، الثالثة هي اتفاق مار مخايل ودخوله في تحالف استراتيجي مع حزب الله، على قاعدة تحالف الأقليات في الشرق الأوسط، فيما المغامرة الرابعة تتجاوز مسألة البقاء في بعبدا أو الخروج منها، لتطال تغيير بنية النظام السياسي. المغامرات الثلاث كان الهدف الأساسي منها الوصول إلى رئاسة الجمهورية، أما المغامرة الرابعة فتكون مرتبطة بالحفاظ على دور سياسي لتياره ولصهره بالتحديد، مغامرة ستكون مكلفة جداً ولا يمكن لأحد أن يتوقع نتائجها وتداعياتها.