كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
أذاب «لهيب» نتائج الانتخابات النيابية «ثلج» الجمود السياسي، كاشفاً عن تموضعات جديدة في ميزان القوى التشريعية. على عاتق النواب المجدد لهم والجدد الواقعين في الخانة السيادية، مسؤولية اقتصادية تاريخية. فهل تتعاون أكثرية هذه الأقليات لرسم طريق الخروج من الأزمة؟ أم يستمر اتحاد الأقلية المرتهنة للأجندة الايرانية في «فلش» الطريق بالمطبات والعوائق التعطيلية على عادته منذ العام 2005.
قبل الانطلاق في تفنيد عناوين الإصلاح التي تبدأ في مشاريع القوانين المحالة إلى البرلمان كالموازنة والكابيتال كونترول، ولا تنتهي في ترشيق القطاع العام، فإن لاستكمال الاستحقاقات الدستورية، ولا سيما لجهة انتخاب هيئة المجلس النيابي وتسمية رئيس الوزراء ومعرفة شكل الحكومة، ومن بعدها رئاسة الجمهورية، أهمية بالغة في تحديد النجاح أو الفشل في رسم معالم المرحلة المقبلة.
الموزاييك النيابي الجديد، المتمثل في عدم حصول أي تحالف على الاغلبية أعاد خلط الأوراق. فـ”ضاعت الاكثرية”، بحسب الكاتب في الإقتصاد السياسي د. بيار الخوري، “متأثرة بوصول 15 نائباً جديداً من القوى التغييرية والمجتمع المدني”.
هذا الواقع المستجد وغير المحسوب له حساب، فاقم التوقعات بعدم إمكانية ولادة حكومة وإنتاج مسار سياسي داخلي قادر على الحكم والاصلاح. “فقبل الخامس عشر من أيار كان “حزب الله” وحلفاؤه يملكون الاكثرية، وكانت لهم اليد الطولى في تسمية رئيس الحكومة، وبالتالي تشكيلها وذلك بغض النظر عن نجاحها أو فشلها”، يقول خوري. “أما اليوم فإن الوضع اختلف، ولا فريق يملك رفاهية تسمية الرئيس العتيد أو حتى إنتاج حكومة ببرنامج تستطيع أن تحوز به ثقة المجلس النيابي”.
أول تجليات حالة عدم اليقين هذه عكسها سعر الصرف. حيث تجاوز البارحة ظهراً عتبة 30 ألف ليرة. وإن كان هذا السعر من وجهة نظر خوري “طبيعياً”، نتيجة تيقن السوق انتهاء فترة السماح أو “المكرمة” التي أعطاها حاكم المركزي للطبقة السياسية من كيس المودعين، بكلفة ناهزت 2 مليار دولار، فإن تلمس الشارع ضياع بوصلة الاكثرية ضغط أكثر على سعر الصرف. وبرأي خوري فإن “مفاعيل تهدئة سعر الصرف من خلال التعميم 161 انتهت أو تكاد. وقد كانت كارثية بكل ما للكلمة من معنى على الاقتصاد وتمّ امتصاص ما تبقى من احتياطيات قاربت قيمتها قيمة القرض الذي يتفاوض لبنان للحصول عليه من صندوق النقد مقسطاً على 4 سنوات”. وعليه فإن مرحلة ما بعد 16 أيّار مبنية على وقف الدعم بأشكاله المتعددة، وتحديداً على الليرة، وحالة عدم اليقين التي تزيد من جهة الطلب التجاري والفردي على الدولار، وتدفع حامليه من الجهة الثانية للتمسك به بانتظار ارتفاعه أكثر. الأمر الذي يفاقم العجز والضغط على القدرة الشرائية ومصالح المودعين والمستهلكين على حد سواء.
“جمرة” الاصلاحات التي تقاذفتها أيادي المنظومة طويلاً، منذ السابع عشر من أيار لم يعد منها مهرب لمدة 4 سنوات. فـ”حصان” الأزمة أخذ مكانه الصحيح أمام “عربة” البرلمان، ولم يعد بالإمكان بأي شكل من الأشكال تأخير الخطوات الواجب تنفيذها. وذلك على غرار ما حصل في الفترة الممتدة منذ انطلاق الثورة وصولاً إلى 15 أيار”، بحسب المستشار المالي د. غسان شماس. “فالاصلاحات التي أجّلت طويلاً تحت ضغط تأثيرها السلبي على الكتل النيابية الطامحة للتجديد لنفسها، يجب أن يباشر المجلس الجديد بها”. وعلى الرغم من أهمية العناوين الكبيرة من إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإصلاح القطاع العام وبناء نموذج اقتصادي جديد…
فإن الأهمية برأي شماس يجب أن تعطى سريعاً لـ”قضايا المواطنين الحياتية”. ولعلّ في مقدمها إيجاد الحل لأزمة الكهرباء. خاصة أن مونة “التيار” المسيطر تاريخياً على قطاع الطاقة على البرلمان ضعفت، أو أقله لم تعد كما كانت. الأمر الذي قد يفتح الباب أمام الحلول العلمية البعيدة عن المنفعية التي لطالما صبغت الخطط السابقة، والمحاسبة الجدية في حال الفشل. وأيضاً هناك الأزمة الصحية وعجز القطاع الاستشفائي عن القيام بأبسط المتطلبات تجاه المواطنين، لا سيما المضمونين منهم على عاتق المؤسسات العامة. ويجب إعادة النظر سريعاً بالرواتب والأجور في القطاع العام وإيجاد السبل المنطقية الآيلة لتحسين القدرة الشرائية للمواطنين من دون أن تؤثر سلباً على الوضع الاقتصادي، واستمرار تدهور سعر الصرف.
المطلوب إذاً، هو خطوات عملية لها علاقة بحياة المواطنين اليومية، لأن الامور ببساطة لم تعد محمولة على كافة المستويات. وبحسب شماس فإن “القوى المنتخبة أمام مسؤولية تاريخية لفرملة الانهيار والانطلاق في ورشة تشريعية قادرة على عكس مسار الأزمة. وهذا ما ليس بالإمكان تحقيقه من دون قرارات جدية وحاسمة. فالاصلاحات من أمامهم والانهيار بين أيديهم وخلفهم”.
الآمال بالتقدم خطوات صغيرة بفعالية كبيرة لتحسين ظروف المواطنين الحياتية، تبددها المخاوف من سهولة تعطيل بقية الاستحقاقات الدستورية، من تشكيل الحكومة وصولاً إلى انتخابات رئاسة الجمهورية بعد 5 أشهر من اليوم. وبرأي د. بيار خوري فإن “معالجة التحديات السياسية الداخلية، وعزل لبنان عن مفاعيل الحرب الروسية، ورسم خريطة الخروج من الانهيار، ثلاثة عناوين من المستحيل التوافق عليها داخلياً خصوصاً بعد التطورات البرلمانية المستجدة. الامر الذي يتطلب الذهاب إلى تسوية خارجية برعاية دولية تؤمن إدارة سليمة للمرحلة. ومن وجهة نظر خوري أمام لبنان خياران لا ثالث لهما:
– إما اتفاق سياسي استراتيجي واسع خارج لبنان ترعاه فرنسا أو الامارات العربية المتحدة أو حتى قطر. مع التشديد على أن يكون مختلفاً عن اتفاق الدوحة، بحيث لا يعطي الغلبة السياسية لطرف على آخر وبضغط اقتصادي لم يكن موجوداً في العام 2008. وهذا الاتفاق يؤدي دور الناظم للعلاقات الجديدة بين المكونات السياسية المتناقضة.
– وإما المراوحة مكاننا في دوامة التعطيل والمهاترات حافرين تحت أقدامنا حتى الغرق الكلي في رمال الازمة المتحركة.
وعليه فإن “كل المواضيع الاقتصادية العامة والتفصيلية، تبقى رهن “النعم” التوافقية أو “لا” الخلافية التي سيحددها انعقاد المؤتمر من عدمه”، برأي خوري. ذلك أننا “بحاجة إلى جهة تحوز بالحد الادنى الثقة التفاوضية مع جميع الاطراف المتناقضة للخروج بحلول للمرحلة المقبلة”.
لبنان أمام تحدٍ قديم جديد، إما جمع “الموزاييك” ورسم لوحة سياسية اقتصادية واجتماعية متناسقة، وإما الإبقاء على القطع منفصلة وحرمان اللبنانيين من فرصة التعافي والخروج من الازمة.