قاسم مرواني
لم تجرؤ غنوة على رفع دعوى ضد عناصر في الحزب التقدمي الاشتراكي حطّموا سيارتها. شفيق تعرّض للإذلال على أيدي عناصر في جهاز أمن الدولة بسبب انتقاده لرئيس الجمهورية. مريم هربت إلى فرنسا بعد أن عجزت الدولة عن حمايتها من تهديدات حزب الله. المعاون أول أحمد الأسمر* نُقل من مكان عمله لعدم سيره بتحقيق بحسب رغبة تيار المستقبل.
تتعدد الأمثلة. تنتشر قصصٌ مشابهة على مساحة لبنان كله، من جنوبه إلى شماله، عابرةً كل بيئاته الاجتماعية والطائفية، ومجسّدةً بوضوح القبضة المُحكَمة التي تفرضها الأحزاب اللبنانية الحاكمة على القوى الأمنية والقضاء.
والنتيجة هي الخوف، خوف من إنجاز هذا الموضوع، خوف دفع كثيرين إلى الامتناع عن تقديم شهاداتهم، أو التستّر خلف أسماء مستعارة، لعلمهم التامّ بعواقب الحديث إلى الإعلام عن الموضوع، أو خوفاً من إلحاق الأذى بمصالحهم، في نظام يصعّب على أي مواطن الحصول على حقوقه من دون المررور عبر بوابة الحزب المسيطر في المنطقة التي يقطنها.
خوف المواطن من اللجوء إلى الشرطة
يتردد المواطنون اللبنانيون في اللجوء إلى قوى الأمن وسلوك الطرق القانونية لتحصيل حقوقهم أو طلب الحماية عندما يتعلق الأمر بخلاف مع أشخاص ينتمون إلى حزب نافذ.
في السادس من تموز/ يوليو 2020، نظّم مواطنون لبنانيون في مدينة عاليه تظاهرة سلمية ضد الطبقة السياسية الحاكمة. كانت غنوة إحدى المشاركات فيها. تتحدث الشابة البالغة من العمر 28 عاماً والمقيمة في تلك المدينة ذات الأغلبية الدرزية لرصيف22 عن تهديدات وصلتهم "حتى قبل أن تنطلق التظاهرة بأيام".
وحين انطلقت، تتابع الشابة التي فضّلت الاكتفاء بذكر اسمها الأول: "كنّا نرى عناصر الحزب التقدمي الاشتراكي منتشرين في سوق عاليه، وكان الجيش يقف حائلاً بيننا وبينهم، أذكر أنني كنت أحمل لافتة مكتوب عليها ‘عِلم، سكن، طبابة للجميع’، ومع انتهاء التظاهرة استقلّيت سيارتي برفقة أصدقائي بغية العودة إلى منازلنا، إذ كانت الأجواء مشحونة في الشارع، ولكن مجموعة من الشباب هجمت على سارتي وبدأت بتحطيمها وكيل الشتائم لنا، كانوا حوالي 15 شاباً يضربون السيارة ويهتفون بحياة (الزعيم الدرزي) وليد جنبلاط".
اتّصل فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي في اليوم التالي بغنوة للوقوف على تفاصيل ما حدث واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة. "تلوا عليّ تفاصيل ما حدث. كانوا على علم بكل ما جرى، كأنهم كانوا معنا"، تقول. مع ذلك، جرى توصيف المعتدين بأنهم "مجهولي الهوية"، ثم بعد أيام، اتّصل محامي الشابة بها ليخبرها أن القضية برمتها طُمست وأنها تستطيع إعادة تفعيلها عبر التقدّم بدعوى شخصية ضد المعتدين.
"هنا بدأت الضغوطات من المجتمع والمحيطين بي"، تتابع غنوة قصتها، و"واجهتُ ضغوطاً من أهلي كي لا أتقدّم بالدعوى، خوفاً من أن يتعرضوا لي مجدداً. أقرباء لي ينتمون إلى الحزب التقدمي الاشتراكي نصحوني بأن أنسى الموضوع وإلا فإن هذه العناصر المتفلتة، كما وصفوها، سيُقدِمون على إلحاق الأذى بي". دفع الخوف غنوة إلى التخلي عن قضيتها.
تعتمد الأحزاب أسلوب التخويف والترغيب لمنع الناس من اللجوء إلى مؤسسات الدولة والتنازل عن حقوقهم. الروائي والمؤهل المتقاعد في قوى الأمن الداخلي فوزي ذبيان (47 عاماً)، والذي يكتب اليوم رواية حول تجربته الأمنية، يوضح لرصيف22 أن تسجيل الدعاوى ضد مجهولين، في حالات الاعتداء على مواطنين، هو أسلوب معتمد لدى قوى الأمن، لأنه يوفّر عليها الصدام مع الأحزاب النافذة على الأرض، لافتاً إلى أن ذلك يحصل في أغلب الحالات بعد تدخل وساطات حزبية.
تأثير الأحزاب على عمل القوى الأمنية
لم تستسلم الصحافية مريم سيف الدين للضغوطات التي تعرضت لها هي وأسرتها المقيمة في أحد أحياء ضواحي بيروت الجنوبية، وأصرّت على الذهاب في المسار القانوني حتى النهاية.
بين أسرة الشابة البالغة من العمر 30 عاماً وبين أقارب لها ينتمون إلى حزب الله تاريخ من المشاكل المالية والعائلية، يضاف إليها أن الشابة الصحافية تقف على الضفة المعارضة لحزب الله وتكتب منشورات تنقد سياساته، ولطالما وصلت إليها وإلى عائلتها تهديدات منهم.
في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، تعرّض أخويها لاعتداء من ابن خالها وأصدقاء له ينتمون إلى حزب الله، استخدموا فيه آلات حادة تسببت بإصابة أحدهما في الكتف والعين والأنف، بحسب تقرير الطبيب الشرعي.
عبر إحكام سيطرتها على القوى الأمنية والقضاء، تحاصر الأحزاب السياسية المواطن اللبناني بنظام من الثواب والعقاب: مَن يسير حسب رغباتها توفّر له غطاءً أمنياً يمكّنه من تجاوز القانون، أما مَن يعارضها فهي قادرة على معاقبته عبر المؤسسات الرسمية للدولة
حاول الأخوان رفع دعوى في المخفر مزوّدين بتقرير من طبيب شرعي، لكن رتيب التحقيق في المخفر رفض فتح محضر، ولم يغيّر قراره إلا بعد اتصال مريم بالعقيد جوزيف مسلم، مسؤول العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي وبمحامٍ، للضغط على المخفر.
بعد فتح المحضر، تقول مريم لرصيف22: "أصر المحقق على استعمال كلمة تضارب. اعترضنا على أساس أن الضرب لم يكن متبادلاً بل إخوتي مَن اعتُدي عليهم. كانت محاولة واضحة لتغيير الوقائع".
يقول المحقق السابق في تحري بيروت، حسين النجار* لرصيف22 إن "المواطن لا يملك دراية كافية بالقوانين، ما يعطي للمحقق ميزة توجيه التحقيق كيفما يشاء"، ويشرح: "كلمة صغيرة قادرة على تحويل التهمة من جناية إلى جنحة أو العكس"، مشيراً إلى أنه "يتم التواصل مع رتيب التحقيق، عبر الضابط المسؤول في الفصيلة أو عبر زملائه"، ليأخذ طرفاً بين المتخاصمين، ومتابعاً: "أنا كضابط تحقيق لا أعرف مَن يتصل بالضابط إلا أنني أستطيع التكهن".
أما الملازم المتقاعد سامر عبّود*، والذي ترأس عدداً من المخافر في جنوب لبنان، فيقول لرصيف22: "حين يكون الموقوف مقرّباً من حزب الله، تتصل بنا اللجنة الأمنية وتضغط من أجل تغيير المحضر ليصبّ في صالح الموقوف".
تتطابق شهادة عبّود مع شهادة المعاون أول أحمد الأسمر الذي خدم في إحدى مناطق شمال لبنان. يقول الأخير لرصيف22: "تحت شعار إجراء صلح بين المتخاصمين، يتعرّض رتيب التحقيق لضغوطات من قبل تيار المستقبل، ويُطلب منه تأجيل إحضار المدّعى عليه، أو التلاعب بمحضر التحقيق".
فوزي ذبيان كان شاهداً على عدة تحقيقات في مخفر البسطة التحتا في بيروت، باعتباره كاتب محضر. يحكي قصّة تُقدّم صورة واضحة عن قدرة المحققين على التلاعب بالتحقيقات. "قمنا بتوقيف فتاة بعد أن شوّهت وجه رجل سوري الجنسية بشفرة حادة"، يروي، "وبعد التحقيق معها تبيّن أن الرجل تبعها حتى وصلت إلى زقاق معتم ووضع يده على كتفها، فاستدارت وضربت وجهه بشفرة. قال لها المحقق إن شهادتها هذه كافية لتضعها في السجن، لذلك الأفضل أن تقول إن الرجل دفعها إلى الجدار ووضع يده على ثدييها ومؤخرتها وبذلك يصبح هو المجرم وتُبَرّأ هي".
تشير غادة نقولا، المحامية والناشطة في جميعة الحركة القانونية، وهي حركة تقدّم الدعم القانوني للأشخاص الذين يعانون من أوضاع هشّة، إلى مبدأ قانوني هو: "لا يجوز لأحد التذرع بجهل القانون". وتقول لرصيف22 إن الدولة تحاكم الناس على أساسه لكنها في المقابل لا تعرّفهم على القوانين وهو ما تحاول الحركة القيام به عبر حملات توعية في مختلف المناطق اللبنانية.
الجهل بالقانون يعطي المحقق الأفضلية في إقناع الموقوفين بما لا يكون في صالحهم وبالتالي توجيه القضية لتصب في صالح الطرف المقرّب منه.
ومؤخراً، صدر القانون رقم 191، تاريخ 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، وعدّل المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية ليعطي المحامي الحق بحضور التحقيق مع موكّله، ويلزم القوى الأمنية بتوثيق التحقيق بالصوت والصورة وتلاوة حقوق المشتبه فيه عند توقيفه. لكن حقوقيين يتحدثون عن عدم التزام بعض الأجهزة الأمنية بمضامين هذه التعديلات.
بعد الاعتداء الأول على إخوة مريم سيف الدين، تعرّض منزل العائلة في الخامس من كانون الثاني/ يناير 2021 لهجوم من قبل أشخاص حزبيين مسلحين، حطّموا كاميرات مراقبة محيطة بالمنزل، وسبقت الهجوم تهديدات بالقتل وتحذيرات من البقاء في المنطقة. "اتصلتُ بالمخفر، وقلت لهم نحن نتعرض لهجوم وإخوتي بخطر، إلا أن المخفر رفض التدخل بحجة أن لا أمر لديه من النيابة العامة"، تروي.
وبعد الهجوم، توجهت الصحافية الشابة إلى المخفر لرفع دعوى. "أتى عنصر في حزب الله يُدعى (...) وبدأوا بالتدخل في التحقيق. رتيب يُدعى (...) انتزع منّي الهاتف ومنعني من الاتصال بمحامٍ أو بأفراد عائلتي الذين مُنعوا بدورهم من دخول المخفر. تعاطوا معي وكأنني المدعى عليه، بينما لم يوقَف أي شخص من المعتدين".
إثر ضغوط إعلامية مارسها زملاء مريم، وبعد تواصل عدد من المحامين مع المخفر، تم تسجيل الدعوى، إلا أن المحقق رفض تسجيل ادّعاء على عناصر في حزب الله أو ذكر أي أسماء حزبية، بخلاف رغبة المدّعية.
ويفرض حزب الله على عناصره عدم اللجوء إلى مراكز الشرطة ومؤسسات الدولة الأمنية لحل النزاعات التي قد تنشب بينهم، أو بينهم وبين سائر المواطنين اللبنانيين، متذرعاً بالخوف من كشف معلومات أمنية عن مقاتليه. في المقابل، يقوم الحزب بحل هذه النزاعات داخلياً أو عبر إقامة صلح بينهم وبين خصومهم.
وأصبح عرفاً وأمراً واقعاً أن تنسّق الدولة اللبنانية مع اللجنة الأمنية التابعة لحزب الله عند كل عملية تقوم بها في أماكن يسيطر عليها، أو تستهدف مواطنين تابعين له.
يشير الملازم المتقاعد في قوى الأمن الداخلي سامر عبّود إلى أنه "في حال كان المدعى عليه عنصراً في حزب الله، كرئيس مخفر، كنت أتصل باللجنة الأمنية لحزب الله وآخذ الإذن منها لتوقيف الشخص والتحقيق معه، وفي العادة يمتنع حزب الله عن تسليم عناصره".
لا يستفيد من تأثير حزب الله على قوى الأمن العناصر المنتسبون إليه فقط، بل كل مواطن لبناني يعيش في المناطق التي يسيطر عليها. كثيرون يلجأون إليه للفوز بنزاعات مع الدولة أو مع مواطنين آخرين.
ويكشف الملازم سامر عبّود أنه "عند توقيف أي مواطن لبناني، تبدأ الاتصالات بالمخفر من اللجان الأمنية التابعة لجميع الأحزاب وليس فقط حزب الله. في الجنوب اللبناني، تأتي الاتصالات من اللجنة الأمنية في حزب الله بشكل رئيسي ومن حركة أمل، إلا أن الحركة تفضّل اختصار الطريق والتدخل لدى المدعي العام حيث يكون لزاماً عليّ تنفيذ تعليماته".
والنيابة العامة هي هيئة قضائية تمثل المجتمع في ممارسة دعوى الحق العام، وللمدعي العام الحق في إصدار الأوامر بالملاحقة والتوقيف والتوسع في التحقيق أو إغلاق الملف وترك المشتبه به في حال سبيله.
في بيروت، حيث تتصارع الأحزاب على النفوذ على قوى الأمن اللبنانية، يمتلك حزب الله السطوة الأكبر، أكان من حيث كمية التدخلات أو من حيث التأثير القوي الذي يتمتع به عبر اللجنة الأمنية.
يلفت المحقق في قوى الأمن الداخلي حسين النجار إلى أن "حزب الله لا يغطّي أحداً بشكل مباشر، لكن حين نريد توقيف مشتبه به في منطقة الضاحية الجنوبية الخاضعة لنفوذه، يتوجب علينا الاتصال باللجنة الأمنية وإعطاءها هوية الشخص المراد توقيفه وموعد دخولنا إلى الضاحية وتحديد المكان المنوي مداهمته، وحين نقوم بالمداهمة لا نجد الشخص المطلوب".
هكذا، تكون عمليات القوى الأمنية اللبنانية مكشوفة بالكامل لدى اللجنة الأمنية في حزب الله، وتمنحه الوقت الكافي لتنبيه المشتبه بهم في حال أراد حمايتهم أو عرقلة عمل القوى الأمنية لأي سبب كان.
عوامل كثيرة تضع عناصر القوى الأمنية تحت رحمة الأحزاب. حتى أولئك الذين لا يؤيدون أي حزب معيّن، يجبرهم النظام السائد على مراعاة رغبة الحزب المهيمن.
فعلى الرغم من أن الرتب الصغيرة في قوى الأمن لا توزع بالتساوي بين الطوائف وبالتالي هي خارج التحاصص الطائفي والمذهبي، إلا أن عناصر الأمن يخضعون تنظيمياً لأصحاب الرتب العالية والتي يُختار ضباطها عبر أعراف تفرض توزيعها بالتساوي بين الطوائف. ويتحكم كل حزب بالحصة المعطاة للطائفة التي يمثلها فيختار للمناصب العالية ضباطاً محسوبين عليه وموالين له بغض النظر عن معيار الكفاءة، ويبقى هؤلاء مرتبطون به لأن ذلك يسهّل ترقياتهم القادمة.
وإذا نظرنا إلى توزيع المخافر في منطقة بيروت الكبرى، والضباط الذين يتولون المسؤولية فيها، نلاحظ الدور الذي تلعبه طائفة الضابط. فآمر فصيلة طريق الجديدة من حصة الطائفة السنّية حصراً وبالتالي من حصة تيار المستقبل، ما يعطي التيار القدرة على التحكم بأي نزاع. أما مخافر الضاحية الجنوبية فيتولى مسؤوليتها ضباط من الطائفة الشيعية وبالتالي يتبعون لحزب الله أو حركة أمل التي تسيطر بشكل كبير أيضاً على مخافر جنوب لبنان. وفي الأشرفية، تكون السلطة على المخافر للقوى السياسية المسيحية.
يلخّص فوزي ذبيان واقع مراكز الشرطة بقوله: "الاتصالات والتدخلات السياسية في المخافر جزء من روتين العمل اليومي. تحصل في كل نزاع. كانت المشاكل تُحَل بأغلبيتها على طريقة أبو ملحم، أي مختار أو وجيه الحارة الذي يلجأ إليه الناس لحل نزاعاتهم بعيداً عن القانون، وفي حالتنا أصبح أبو ملحم آمر فصيلة شرطة".
و"أبو ملحم" هو وصف يردده اللبنانيون لوصف كل مَن يدخل في عقد صلح بين طرفين، وهو مستقى من شخصية تلفزيونية جسّدها الممثل الراحل أديب حداد في مسلسل يحمل الاسم نفسه (1969).
ويتابع ذبيان: "إذا تشاجر شخصان من منطقة النويري مثلاً، وبينما نقوم بكتابة المحضر، يأتي مسؤول في تيار المستقبل أو الجماعة الإسلامية أو وجيه المنطقة الذي تكون خلفيته في العادة سياسية، ويحاول القيام بمصالحة بين المتخاصمين، عادة ما تكون لصالح طرف على حساب طرف آخر يرضى على مضض. المصالحة تناسبنا كعناصر، إذ أن هناك فوضى في عمل قوى الأمن، ونقص في العناصر، وأمامنا كمية كبيرة من القضايا، ولذلك هي توفّر علينا الكثير من العمل كما توفّر علينا الصدام مع الأهالي أو مع الأحزاب".
إثر شجار نشب بين أحد المواطنين في منطقة الضنية شمال لبنان وعنصر في تيار المستقبل، أصر المعاون في قوى الأمن الداخلي أحمد الأسمر على أن يحضر المدعى عليه التابع لتيار المستقبل إلى المخفر لإجراء المقتضى القانوني، إلا أن الأخير رفض.
يروي الأسمر: "أوكل تيار المستقبل المحامي (...) لينوب عنه في متابعة القضايا التي تخص التيار في مفرزة الضنية، وبحجة إقامة صلح بين المتخاصمين، يتواصل (...) مباشرة مع رتيب التحقيق، أو مع الضابط المسؤول في حال عدم تجاوب الأخير، ويملي عليه طلبات مثل تأجيل إحضار المدعى عليه مثلاً أو تغيير محاضر التحقيق لصالحه".
مجموعة من وسائل الضغط تستعملها الأحزاب للتأثير على مجرى التحقيق، وحين يبدي رتيب التحقيق عدم رغبة في الانصياع، ينتقل الضغط إلى الضابط المسؤول أو زملاء رتيب التحقيق. يضيف الأسمر: "يريدون منّا أن نحضر الشخص المطلوب، نحضّر له القهوة، نعتذر منه ونطلق سراحه، وفي حال قال كلمة في غير مصلحته أثناء التحقيق، يريدون منا تنبيهه وإرشاده إلى ما يجب قوله".
بعد أن أصر الأسمر على حضور المدعى عليه إلى المخفر، بالإضافة إلى عدم انصياعه لرغبات تيار المستقبل في قضايا أخرى سابقة، بات يعتبر عنصراً متمرداً. صباح اليوم التالي، تفاجأ ببرقية نقله إلى شرطة بيروت.
مخاوف عديدة تعتري عناصر قوى الأمن أثناء تأدية عملهم في حال تصادموا مع القوى الحزبية على الأرض، يقول الملازم سامر عبّود، ويشرح أن هذه "المخاوف تبدأ بالتصفية الجسدية، وتصل إلى تلفيق التهم. وبما أن كل عنصر معرّض لارتكاب أخطاء خلال ممارسة مهامه، فإن أي خطأ صغير تستطيع الأحزاب عبر النافذين لديها في الدولة استغلاله ضد العنصر المخطئ".
كذلك، يتابع، تسيطر الأحزاب على الأرض، و"عند تأدية عملنا، نأخذ بعين الاعتبار الحيثية التي يتمتع بها الحزب بين الناس وقدرته على تحريك الشارع، فهو يستطيع مثلاً دفع الناس لمهاجمة الدورية أو المخفر، ويستطيع أن يرسل شابين إلى منزلي وإهانتي أو التعرض لي بالأذى. هذه أمور نراعيها خلال تأدية مهامنا".
كل ذلك يجعل من مصلحة العناصر والرتباء في قوى الأمن الداخلي الحفاظ على علاقات جيدة مع الأحزاب، بل وحتى التواطؤ معها، إما من أجل حماية أنفسهم أو من أجل اكتساب امتيازات وترقيات، وحتى الحصول على رشاوى.
تواصلنا مع قوى الأمن الداخلي للتعليق على بعض النقاط التي أثرناها، ولكن لم نتلقَّ أي رد.
تأثير الأحزاب على الموسسات القضائية
تلتزم المخافر ومراكز الشرطة بما يمليه عليها المدعي العام من أوامر وتعليمات، ويشرف القضاء على سير التحقيقات ويعطي الأوامر بإخلاء سبيل المشتبه به أو توقيفه.
لذلك، تختصر الأحزاب أحياناً الطريق عبر التدخل مباشرة لدى المدعي العام أو قاضي التحقيق. وهنا تنتقل المشكلة من القوى الأمنية إلى القضاء وانعدام استقلاليته ويتحول أبو ملحم من قائد لفصيلة شرطة إلى مدعٍ عام لا يهدأ هاتفه عند كل قضية للقيام بصلحة بين متخاصمين.
في الرابع من آب/ أغسطس 2021، تظاهرت أحزاب ومجموعات سياسية ومدنية معارضة في منطقة الجميزة ومار مخايل إحياءً لذكرى انفجار مرفأ بيروت وللمطالبة بكشف حقيقة الانفجار والمسؤولين عنه وبالتالي محاسبتهم.
كان مازن أبو زيد الذي ينتمي إلى الحزب الشيوعي اللبناني أحد الشباب الذين شاركوا في مسيرة دعت إليها لجنة أهالي ضحايا المرفأ في ذلك اليوم، وعندما مرّ المشاركون بجانب مركز لحزب القوات اللبنانية في الجميزة، جرى تلاسن بين شباب شيوعيين وآخرين قواتيين.
حاصر الشباب القواتيون مازن وانهالوا عليه بالضرب بالعصي والطعن بالسكاكين في مشهد صوّره متظاهرون وانتشر على شبكات التواصل الاجتماعي. يقول مازن لرصيف22: "حتى عندما وصلت سيارة الإسعاف، حاول العناصر منعها من نقلي إلى المستشفى، فنية تصفيتي جسدياً كانت واضحة لديهم".
أثبت تقرير الطبيب الشرعي خطورة الإصابات التي تعرض لها مازن. تولى الحامي مازن حطيط قضيته وادّعى لدى النيابة العامة بجرم محاولة القتل، لكن لم يُستدعَ أحد من المعتدين على الرغم من ظهورهم بشكل واضح في الفيديوهات المصوّرة والتي قُدّمت للنيابة العامة وقوى الأمن.
يروي حطيط لرصيف22 تفاصيل ما جرى لدى النيابة العامة: "على خلفية الاعتداء على الشقيقين جوني وجاك بركات في الرابع من آب/ أغسطس، تم توقيف شخصين ظهرا في فيديوهات الاعتداء على مازن، هما (... و...). ادّعينا عليهما بجرم محاولة القتل، إلا أن النيابة العامة التمييزية اعتبرت ما حصل عبارة عن إشكال فردي وأطلقت سراح الموقوفين".
وتعرّض الشابان جاك وجوني بركات المذكوران في ذلك اليوم لاعتداء من قبل عدد من مناصري حزب القوات اللبنانية في منطقة الجميّزة، تخلّله تصوير فيديو لجاك انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو يتعرض للضرب ويُطلب منه قول عبارات معيّنة، بهدف إذلاله وترويع غيره من الناس.
مساء اليوم نفسه، أي بعد الإشكال بساعات، قام متظاهرون برشق آلية عسكرية تابعة للجيش اللبناني بحجارة. يشير المحامي مازن حطيط إلى أن القضاء تذرّع بحادثة الآلية العسكرية لتحويل كل ملفات الاعتداءات إلى المحكمة العسكرية، ومن بينها ملف الاعتداء على أبو زيد.
ويضيف: "تقدّمنا بطلب فصل ملف مازن عن ملف الشابين جوني وجاك بركات، كما عن الملف العسكري، وطالبنا بإعادته إلى القضاء العدلي كونه جرم محاولة قتل واضح ومستقل". لكن لم يؤخَذ بهذا الطلب.
تلجأ أحزاب السلطة إلى تحويل القضايا المتعلقة بأفرادها إلى المحكمة العسكرية حالما تتاح الفرصة لها. وبحسب حطيط، "في المحكمة العسكرية لا يوجد سوى الحق العام، ويصبح موكلي مجرد شاهد وليس صاحب حق، إذ لا صفة لنا في القضية ولا حق لنا بالاطلاع على الملف".
الملفت أن أحد الشخصين اللذين ظهرا أثناء الاعتداء على أبو زيد، والذي أخلت المحكمة سبيله، جرى توقيفه مجدداً في أحداث الطيونة في بيروت والتي جرت في 14 أيار/ مايو 2021.
يقول حطيط: "تعاطى القضاء مع الموقوفين في قضيتنا على أنهم أفراد وعلى أن اعتداءهم عمل فردي، بينما تعاطى معهم في أحداث الطيونة على أنهم تابعين للقوات اللبنانية لاستثمار ما جرى في السياسة".
في المقابل، يروي المحامي عن القوات اللبنانية بشير بيطار وجهة نظر مختلفة لسير الأحداث. يقول إن المتهمين بالاعتداء على أبو زيد لا علاقة لهما بالإشكال ولا يظهران في الفيديوهات بصورة المعتدين.
وبرأيه، التدخل السياسي الذي حصل في قضية مازن أبو زيد كان من طرف خصوم القوات، ويتساءل لماذا أوقف أحد المذكوريْن لفترة طويلة "ولماذا لم يقم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بفتح تحقيق في الإشكالات والتعديات ضد قوى الأمن؟".
قصة مريم سيف الدين وصلت أيضاً إلى القضاء. رفَعَت دعوى ضد المعتدين على أسرتها، وبحجة أن أحدهم يمت لها بصلة قرابة، "وُضعت الدعوى في خانة العنف الأسري"، بحسب روايتها.
وحين دخلت مريم لتدلي بإفادتها أمام القضاء، تتابع، "سألتني القاضية (...) ما الذي حدث معنا، ورفضت أن تسمع أي شيء حصل قبل الخامس من كانون الثاني/ يناير 2020. أما التهديدات، والاعتداء الأول على إخوتي، ومحاولات الترحيل من الضاحية، وكل الأمور السابقة المرتبطة بالحادثة فلم تقبل سماعها، وحَصَرت الموضوع بما حصل في ذلك اليوم وكأن الإشكال حدث صدفة".
تتحدث المحامية غادة نقولا عن فساد يستشري في النيابات العامة والمحاكم وتستغله الجهات النافذة لصالحها في كثير من الأحيان. على سبيل المثال، رؤساء الأقلام في النيابات العامة التمييزية والذين تُناط بهم مهمة كتابة المحاضر "قادرون، إذا أرادوا، على العبث بالقضية وتحويل وجهتها من إتجار بالمخدرات مثلاً إلى تعاطٍ أو ترويج"، تقول.
وتتحدث عن أمور حصلت معها: "في القضايا المدنية، في محكمة طرابلس السنّية، عانينا من الاختفاء الدائم للتبليغات والأوراق من الملفات. كانت تختفي أثناء الجلسة ثم تظهر حين نراجع الملف، في تواطؤ واضح بين الموظفين والمدعي أو المدعى عليه".
التدخل السياسي في القضاء مسألة قديمة في لبنان. لا تعزز التشريعات القائمة استقلالية القضاء، وما تقدّمه من حماية للقضاة ضعيف.
الهيئة التي تعيّن القضاة وتدير عملهم والمناط بها نظرياً "السهر على استقلال القضاء"، أي مجلس القضاء الأعلى، تضعها كيفية تشكيها تحت هيمنة القوى السياسية، فثمانية من أصل عشرة قضاة تتألف منهم معيّنون من مجلس الوزراء، مع ما يعنيه ذلك من تسرّب معايير المحاصصة والزبائنية إلى المجلس.
"التدخل بالقضاء مشكلة نظام"، يقول الباحث والمحامي والمدير التنفيذي للمفكرة القانونية نزاز صاغية ويضيف لرصيف22: "يبدأ التدخل من مجلس القضاء الأعلى الذي تكمن وظيفته في إدارة المسار المهني للقضاة ويشكل الضمانة للقضاء. يفتقر هذا المجلس للاستقلالية إذ تعيّن الحكومة ثمانية من أعضائه بحسب كوتا طائفية يسيطر عليها السياسيون، وبالتالي يصير أعضاؤه ممثلين للقوى السياسية".
وبما أن أعضاء المجلس الأعلى للقضاء يتحكّمون بالتشكيلات القضائية، "تم تطييف أهم المراكز القضائية وأصبح القضاة ينالون مناصبهم عبر وساطات من الزعماء".
مشاريع عدة لاستقلالية القضاء أُعدّت وقُدّمت إلى المجلس النيابي، كان أبرزها المشروع الذي أُعدّ بمبادرة من المفكرة القانونية، وتوافق عليه ائتلاف مدني مكوّن من 30 هيئة مدنية، ووقّعه 352 قاضياً، وتقدّمت به إلى مجلس النواب النائبة بولا يعقوبيان عام 2018، موقعاً من تسعة نواب من كتل نيابية مختلفة، هم إلى جانبها: أسامة سعد (مستقل)، فؤاد مخزومي (مستقل)، ياسين جابر وميشال موسى (حركة أمل)، نجيب ميقاتي وعلي درويش (كتلة الوسط المستقبل برئاسة ميقاتي)، شامل روكز (التيار الوطني الحر)، وجورج عقيص (القوات اللبنانية).
يشرح صاغية أن مشروع القانون يشمل إعادة تكوين الهيئات القضائية كهيئة التفتيش القضائي ومجلس القضاء الأعلى، وتحصينها من تدخلات السلطة السياسية، بحيث لا تعيّن السلطة التنفيذية قضاة، كما اقتُرحت أطر جديدة يستطيع القاضي إبراز كفاءته من خلالها، بالإضافة إلى تغيير عملية المحاسبة وسحبها من أيدي أشخاص تعيّنهم السلطة، وتغيير عملية الدخول إلى القضاء، ليضمن فرص الكفوئين.
ومن ناحية ثانية، تطرّق المشروع إلى تغيير العلاقات داخل النيابة العامة التي هي حالياً عبارة عن سلطة هرمية يتحكم النائب العام التمييزي بكامل تفاصيلها، ونصّ على تخفيف هذه الهرمية وجعل سلطة الأخير قابلة للضبط.
والأهم في المشروع، بحسب صاغية، هو "تعزيز حقوق وحريات القضاة ليكونوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم في وجه التدخلات"، وضمان حرية التجمع لهم.
سلك هذا المشروع طريقاً وعراً في مجلس النواب، وتعرض في لجنة الإدارة والعدل للكثير من التعديلات والتغييرات في الصياغات حتى فرّغ من مضامينه الأساسية، ويصف صاغية النسخة المتداولة حالياً داخل مجلس النواب بأنها "غير جديرة بأن تضمن استقلالية القضاء".
بدورها، تتحدث النائبة بولا يعقوبيان لرصيف22 عن لمسها عن قرب للمسار الذي سلكه المشروع في مجلس النواب.
النتيجة... مجتمع يتملّكه الخوف
عبر إحكام سيطرتها على القوى الأمنية والقضاء، تحاصر الأحزاب السياسية المواطن اللبناني بنظام من الثواب والعقاب: مَن يسير حسب رغباتها توفّر له غطاءً أمنياً يمكّنه من تجاوز القانون في حالات كثيرة كالتعدّي على مشاعات الدولة أو حمل سلاح غير مرخص أو التفلّت من المحاسبة، أما مَن يعارضها فهي قادرة على معاقبته عبر المؤسسات الرسمية للدولة.
ففي لبنان، لكل حزب سياسي-طائفي كبير جهاز أمني هو بمثابة يد ضاربة يستخدمها ضد معارضيه، فتيار المستقبل مثلاً يسيطر على شعبة المعلومات التي يرأسها حالياً العميد خالد حمود الذي ينتمي إلى الطائفة السنّية، بينما يسيطر التيار الوطني الحر على جهاز أمن الدولة الذي يرأسه حالياً اللواء طوني صليبا، المسيحي الماروني.
في مثال واضح على استخدام القوى الأمنية من قبل الأحزاب السياسية للسيطرة على المواطنين وقمع الحركات المعارضة، ما حصل إثر انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019. ففي حين استخدَمت أحزاب مثل حزب الله وحركة أمل والتقدمي الاشتراكي محازبيها ومناصريها لقمع المحتجين، لجأ التيار الوطني الحر إلى أجهزة الدولة الأمنية.
وبحسب منظمة العفو الدولية "منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، اطّلعت المنظمة على 75 حالة فتبيّن لها أن مجموعة من الأجهزة الأمنية العسكرية، التي ليس أي منها مفوضاً للنظر في قضايا حرية الرأي، قد استدعت عشرات الأشخاص واستجوبتهم، بعضهم بصورة متكررة، بشأن تعليقات نشروها على وسائل التواصل الاجتماعي انتقدوا فيها السلطات".
عدد كبير ممّن استُدعوا للتحقيق جرى معهم ذلك على خلفية منشورات تنتقد أو تهاجم رئيس الجمهورية ميشال عون. فقد فعّلت الجهات الرسمية فجأة المادة 384 من قانون العقوبات والتي تنص على أن "مَن حقّر رئيس الدولة عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين"، وهي مادة تتضارب مع حرية التعبير.
وهدفت الاعتقالات التعسفية على خلفية انتقاد رئيس الجمهورية أحياناً إلى محاولة إذلال الناشطين، لتأديبهم، كما جرى مع موريس الشمعي الذي انتشرت صورة له وهو معصوب العينين، بعد إلقاء القبض عليه من قبل مخابرات الجيش، في التاسع من آب/ أغسطس 2020، بعد يوم من تحطيمه صورة للرئيس ميشال عون، أثناء اقتحام مجموعة من المنتفضين لمبنى وزارة الخارجية.
للناشط شفيق بدر (36 عاماً)، وهو من سكان الأشرفية في بيروت، تجربة مع جهاز أمن الدولة. يحكي لرصيف22 أنه ألقي القبض عليه في آب/ أغسطس 2020، بسبب منشور له على فيسبوك انتقد فيه رئيس الجمهورية ويقول: "خلال التحقيق، بدأ الضابط بإهانتي وتوجيه كلامٍ نابٍ إلي، ثم ضربني على رأسي وطلب منّي الركوع. استمر الأمر على هذا النحو لساعات، وبعدها طلب منّي الكف عن انتقاد رئيس الجمهورية باعتباره غير مسؤول عن الحال الراهن والتركيز على انتقاد شخصيات أخرى مثل سعد الحريري أو نهاد المشنوق أو رئيس المجلس النيابي لأنه مَن يقوم بتعطيل القوانين".
تهيمن الأحزاب السياسية على المواطنين عبر مزيج من الترغيب والترهيب. أرست علاقة من المَصالح والزبائنية مع الدولة، مع القضاء ومع قوى الأمن، فأصبحت هي المرجع الأول لحل النزاعات بين المواطنين.
كل الذين حكوا قصصهم لرصيف22 تعرّضوا بشكل أو بآخر لضغوطات كي يقبلوا بحلول من دون سلوك الطرق القانونية والقضائية. تروي مريم سيف الدين أن أحد عناصر حزب الله تواصل مع أسرتها وأخبرها بأن أحد نواب الحزب سيحل الموضوع لكن عليهم ألا يلجأوا إلى الدولة. مع تزايد الضغوط عليها لاحقاً، اضطرت الشابة إلى مغادرة لبنان إلى فرنسا، وترك أفراد عائلتها منزلهم وانتقلوا إلى مكان آخر في حين "نامت" الدعاوى التي رفعوها أمام القضاء.
نتيجة كل هذا هي انعدام ثقة المواطنين بالدولة، واتجاه كثيرين منهم إلى حل المشاكل التي تواجههم عبر الاستعانة بالأحزاب من دون اللجوء إلى القانون، وبالتالي الموافقة على ما يمليه هذا الحزب أو ذاك من حلول لا تكون في معظم الحالات مُرضية لأصحاب الحق، خاصة عندما يكون الطرف الآخر في الدعوى تابعاً للحزب الذي يلعب دور القاضي.
وفي أحيان كثيرة، كما حصل مع غنوة في خلافها مع الحزب التقدمي الاشتراكي، يتنازل المتضررون عن حقوقهم تحاشياً لإشكال مع الحزب المسيطر، مدركين أنهم لن يخرجوا منه رابحين.
خلال التظاهرات في مدينة صور، إثر انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ضد الطبقة السياسية الحاكمة، اعتدى عناصر مسلحون في حركة أمل على المتظاهرين. يقول الأستاذ الجامعي والناشط في حراك مدينة صور حاتم حلاوي إن أحداً من المعتدين، الواضحة وجوههم وهوياتهم في الفيديوهات المتداولة، لم يوقَف.
خلق هذا الواقع حالة من الخوف لدى اللبنانيين، خوف من المطالبة بحقوقهم وممارسة حرياتهم، خوف يجعل من الصعب على أي حركة معارضة استقطاب الناس إليها.
يقول حلاوي: "لم يقتصر الأمر على الصعوبة في الاستقطاب، بل تعداه إلى خسارة مَن معنا. حين أتحدث إلى الناس اليوم يقولون لي: نحن معك لكننا لا نستطيع التظاهر".
يدرك محمد الذي يمتلك مصلحة صغيرة في إحدى قرى الجنوب اللبناني قدرة الأحزاب على إلحاق الأذى بالمواطنين وضعف الدولة في حمايتهم. تعرّض شخصياً لاعتداء في أواسط تسعينيات القرن الماضي، حين هاجم منزله مسلحون ملثمون من حزب الله وحاولوا قتله. وقتها، نجا بأعجوبة ولم تسفر الشكاوى التي تقدم بها عن توقيف الفاعلين أو كشف هوياتهم.
بعد ثورة 17 تشرين، شارك محمد في كل التظاهرات التي خرجت في الجنوب، في النبطية وصور وغيرها. يقول لرصيف22: "يستطيعون قتلي أو تلفيق تهمة لي أو إلحاق الأذى بأحد أقاربي، أو قد يقومون بتحطيم مصلحتي. أفضّل المحافظة على علاقات جيدة مع الجميع وعدم الدخول في مشاكل أنا بالغنى عنها".
المصدر: رصيف22