حنين رباح – الأخبار
أن ترى عدوك وجهاً لوجه، فالأمر يتكرر يومياً في ميادين المقاومة في فلسطين، لكن أن «تعيش» معه في غرفة «هادئة»، فهذا الذي يحدث في مخيمات «التطبيع» التي تجريها مؤسسة «إجازة من الحرب» في ألمانيا بتنسيق «فلسطيني ــ إسرائيلي» من خلال مشروع «كسر الحواجز». يصرّ الفلسطينيون المساهمون في المشروع على مواصلة إقامة هذه المخيمات منذ عام 2002 إلى صيف 2018، و«الحبل على الجرار».
تودّع الشابة فدوى ضريح والدها، قبل أن تسافر إلى «المكان الذي حُرقت فيه عائلات كاملة» كما تقول «زميلتها» لوا. تحمل فدوى حقائبها متوجهة من الضفة المحتلة إلى ألمانيا، حيث ستتشارك في مدينة كولونيا (غرب ألمانيا) غرفتها مع لوا، قبل أن يأتي الصباح التالي لتتناول إفطارها من صحنهما المشترك، و«تحاورها». في المخيم المشترك الذي يجمعهما، تسترجع فدوى الفلسطينية حادثة استشهاد والدها في الانتفاضة الثانية. تتحدث عنه ويمرّ الأمر سريعاً. رغم النقاشات الحادة على مدى أيام، تصل إلى معانقة لوا، الشابة الإسرائيلية التي جاءت تحمل جنسية «الكيان الذي قتل» والدها.
هنا في هذه «الغرفة الضيقة»، يعيش شباب فلسطينيون أسبوعين مع شباب إسرائيليين. يبدو الأمر بسيطاً إلى الحد الذي لم يشكّل مانعاً لبعض أبناء الشهداء على مدار السنوات الماضية من الذهاب إلى هذه المخيمات التي يُجمع أهل البلد على تسميتها «مخيمات تطبيع… أو عمالة». «معقل التطبيع» الألماني بدأ عام 2002 بمبادرة فلسطينية بامتياز، فقد أسس رئيس «جمعية الرؤيا الفلسطينية» (مرخصة من رام الله وتعمل في القدس والضفة)، رامي ناصر الدين، مبادرة سماها «كسر الحواجز» (Breaking Barriers)، بتمويل من مؤسسة «إجازة من الحرب» (Vacation from War)، وهي مؤسسة ألمانية تموّل برامج عدة تحت عنوان التعايش في مناطق الحروب، الأهلية أو غيرها. فمثلاً تنفذ في البوسنة «برامج تعايش» مع الصرب، وفي فلسطين تنفذ «مشاريع تعايش» بين الفلسطينيين والإسرائيليين، معتبرة أن مشكلة فلسطين ليست سوى نزاع أهلي. وقد بدأت عملها منذ 1994، تحديداً من حرب يوغوسلافيا السابقة، فيما شارك أكثر من 20 ألف طفل وشاب من ذلك البلد في المشروع على مدى تلك السنوات.
«إجازة» من فلسطين
نجح المشرفون على هذا المشروع في تطويع الشباب الفلسطيني وغسل أدمغتهم لنبذ المقاومة وتقبّل الاحتلال كصاحب السيادة والأرض. بدأ العمل على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ 2002. وفي ظل احتدام الانتفاضة الثانية، شكّل «إجازة من الحرب» فريق «كسر الحواجز» المتمثل بناصر الدين من الجانب الفلسطيني، وكيرين عساف من الجانب الإسرائيلي، وجاءت بعدها موران تشين، وهي أيضاً صديقة لناصر الدين. هذا الفريق دعا لأول مرة شباباً من «إسرائيل» وفلسطين لحلقات نقاش في ألمانيا، ومنذ ذلك الوقت، بدأ عقد اللقاءات السنوية، بالإضافة إلى اللقاءات النسائية الإضافية، وقد شارك في المجمل أكثر من 2000 شابة وشاب من الجانبين. ووفق متابعة عملية الدعوة والتنسيق، يذهب الشاب الفلسطيني بكامل إرادته، وخاصة أنه تبيّن علمُ المشاركين من كلا الطرفين مسبقاً بتفاصيل اللقاءات، إذ يجري تجهيزهم بأربع أو خمس جلسات تحضيرية في رام الله وتل أبيب، يتعرفون خلالها إلى مشروع «كسر الحواجز» وطبيعة النشاطات التي ستجمعهم بالطرف الآخر. يأتي المشاركون الفلسطينيون من القدس أو الضفة المحتلة، أما الإسرائيليون، فهم من أصول «مهاجرة» مختلفة. ورغم تعبيد الطريق لـ«المصافحة»، فإن الفلسطينيين القادمين من الضفة مجبرون على عبور حدود الأردن للمغادرة من مطار عمان، الأمر الذي يستدعي سفراً التفافياً ليومين أو ثلاثة، فيما يغادر المشاركون الإسرائيليون مباشرة من مطار تل أبيب.
داخل المخيم
تركّز «إجازة من الحرب» على جيل «أوسلو» الذي عايش «الأمل في حل الدولتين»، والذين تتراوح أعمارهم بين 20 و30 سنة. يُقسّم المشاركون إلى مجموعات بعدد متساوٍ من الفلسطينيين والإسرائيليين، ويجري جزء كبير من النقاش داخل هذه المجموعات التي تبقى كما هي طوال المخيم، على أن من يقودها هم مشرفون «محايدون». تتدحرج مراحل المشروع من «إحماءٍ» و«كسر الجليد» إلى «الشجار»، وصولاً في النهاية إلى اتخاذ قرار «إنهاء الحرب والعنف». تركّز هذه المشاريع، وفق الموقع الإلكتروني للمؤسسة الألمانية، على «أشخاص لا يملكون الكثير من الثقافة التاريخية»، فتستغل هذه الثغرة لترسيخ «الوقائع التاريخية» التي تريدها الإدارة، الأمر الذي يجعل المشاركين الحلقة الأضعف والمتقبّلة أي نتيجة.
«بساطة» المشروع تُدرس بعناية. فواحدة من أهم النقاط التي يجري العمل عليها لإقناعهم بفكرة «السلام» هي تنقّلهم في أوروبا وعبورهم الحدود الداخلية من دون أي تفتيش أو حواجز أمنية، رغم كل ما عاشته القارة العجوز من حروب. هذه التقنيات في إيصال الفكرة وترسيخها معتمدة كما يبدو طوال أيام النشاط. أهم المعلومات وتطويع الأفكار تُسرّب في أوقات الغداء أو الغناء أو السهر طبقاً لتقنيات تدريبية، وبذلك يحققون هدفهم من اللقاء بطريقة انسيابية.
في الصيف الجاري (2018)، ستُعقد هذه اللقاءات التي لم تنقطع منذ أن وُضعت على سكة التنفيذ. ومن المقرر في هذا الشهر، لأول مرة، إجراء لقاء يجمع 58 امرأة فلسطينية وإسرائيلية تنظّمه النساء أنفسهنّ، بالإضافة إلى عقد «الحلقات الثابتة» التي تجمع شابات وشباباً، وذلك بالتعاون مع منظمة جديدة امتنعت عن الكشف عن اسمها «لكي لا تسبّب لها أي ضرر»، كما اعتمد على هذه المنظمة لأن بعض الأعضاء الذين عملوا في السنوات الماضية سيتغيبون لـ«أسباب شخصية»، وفق الموقع نفسه، لكن من دون أن نستطيع معرفتها. هذه الأسباب هي نفسها التي دفعت منسق المشروع سابقاً (رامي ناصر الذين) إلى الابتعاد عن الأضواء بعد تنسيقه العلني من 2002 إلى 2010. ووفق معلومات حصلت عليها «الأخبار» من الرسائل الإلكترونية التي كان يتلقاها من منسقة «برنامج التعايش» في فلسطين وإسرائيل عن الجانب الألماني، باربرا إسر، يظهر أنه بقي منسقاً للمشروع بطريقة غير معلنة من 2010 حتى 2016.
وفي رسالة تلقاها بتاريخ 13 تموز 2016 من إسر جاء فيها أن «المملكة الأردنية تريد معرفة أسماء الأشخاص الذين سيعبرون الحدود الآن»، وتطلب منه «إرسال 23 اسماً» كمرحلة أولى. ومن ثم حوّل رامي الرسالة نفسها إلى فريقه في «الرؤيا الفلسطينية»، وهم ممن يشاركون عادة في هذه الفعاليات في ألمانيا. وفق المعلومات، كان أمين صندوق «الرؤيا»، خالد أبو خالد، يحضر دوماً في ألمانيا ويعاين الأمور عن قرب، فيما سعى ناصر الدين إلى إشراك كلّ من أعضاء مجلس الإدارة روان برغوت التي شاركت في فعاليات 2015، ومريم جبرين التي شاركت في 2016، بالإضافة إلى صوفيا دعيبس، علماً بأن بعض الأعضاء شاركوا سابقاً، لكنهم تركوا المؤسسة لاحقاً، مثل مهند قرش ولون عريقات.
أين BDS؟
خلال متابعة الأخبار الصادرة عن هذا المخيم، ظهر أن غالبيتها ترويجية وأجرتها وسائل إعلام ألمانية متحدثة بالعربية، لكن بياناً «يتيماً» كان قد صدر عن «اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل في فلسطين» (BDS Palestine) في تشرين الأول 2017، طالبت فيه «منظمي (كسر الحواجز) والمشاركين فيه من الفلسطينيين بالانسحاب الفوري منه والتوقف عن الأنشطة التطبيعية»، محذرة من أنه «في حال عدم الاستجابة، ستضطر اللجنة إلى ممارسة الضغط الشعبي السلمي من خلال نشر أسماء كل من له علاقة بمشروع كسر الحواجز».
وجاء هذا البيان بعد مشاركة ناصر الدين مع «قارب السلام» ــــ وهي مؤسسة يابانية تعمل على جمع طرفين متنازعين في رحلة عبر قارب ــــ مقررة أن تضع اسمه على «اللائحة السوداء». لكن وثيقة حصلت عليها «الأخبار» تظهر مطالبة «هيئة العمل الوطني والأهلي في القدس» أعضاء الهيئة العامة لـ«BDS» بتشكيل لجنة تحقيق، في تموز 2018، وذلك لمعرفة القرارات التي صدرت بخصوص مشروع «كسر الحواجز»والتحقق منها. وعلمت «الأخبار» أن «BDS» لديها ملف كامل متعلق بالمشروع بما فيه صور ووثائق ومراسلات داخلية وروابط إلكترونية تثيت مشاركة ناصر الدين وجزء من فريق عمله في هذا المشروع.
في الوقت نفسه، كان مسؤول في «BDS» قد أكد لبعض المتابعين تورط هؤلاء الأشخاص في التطبيع، لكن ما استدعى من الهيئة الطلب بتشكيل لجنة للتحقيق هو حديثٌ للمسؤول نفسه يقول فيه إنه لا يوجد أي أدلة تثبت تورط ناصر الدين أو «الرؤيا» في نشاطات تطبيعية، وهو ما مثّل «تبرئة» لهما، فضلاً عن أن الحملة لم تواصل أياً من الخطوات التصعيدية التي جاء ذكرها في بيانها عام 2017. وبعد التواصل مع المنسق العام لـ«BDS» محمود نواجعة، قال الأخير إنّ «اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل تعتبر «كسر الحواجز» مشروعاً تطبيعياً وستناهضه، كما تناهض كل المشاريع التطبيعية من خلال الضغط الشعبي السلمي. لم تنتهِ اللجنة بعد من مرحلة التحقيق في المشروع والمشاركين فيه، وفور التأكد من هوية المشاركين فيه، ستعمل على فضح هذه المشاركة، كما في كل مشروع تطبيعي آخر».
لكن ما يظهر هو إصرار من المنسقين على العمل في هذا المشروع حتى بعد علمهم أن وجودهم هو «شرعنة» للعدو بالحد الأدنى. جراء ذلك، يتمدد مشروع «إجازة من الحرب» باستمرار، فهو لم يكتفِ بإقامة نشاطات «التعايش» في ألمانيا، بل نقلها إلى فلسطين. وبينما تبيّن تورط ناصر الدين في التنسيق لغاية 2016، تبين أن جمعيتين فلسطينيتين أخريين دخلتا على الخط هما «أيدي جيل المستقبل» و«المرأة الفلسطينية الألمانية» (تلقى ناصر الدين جائزة «دير جبل صهيون» عام 2003 بالاشتراك مع كيرين عساف عن مشروعهما «كسر الحواجز»، وهي جائزة تعزز التواصل الديني بين اليهود والمسيحيين والمسلمين وتعمل في سبيل «المصالحة والسلام»). ووفق تقرير 2017 الصادر عن «إجازة من الحرب»، التي تمتنع عن ذكر أي منظمة مساهمة أو منسقة للمشروع خوفاً من الملاحقة من «المجتمع الفلسطيني وحملات المقاطعة»، ظهر أن هاتين الجمعيتين تتلقيان تمويلاً من «إجازة من الحرب» لتنفيذ نشاطاتهما في فلسطين، وهي مخصصة عادة للأطفال ويشرف عليها شباب مرتبطون بها.
رؤية «الرؤيا»
تطل مؤسسة «الرؤيا الفلسطينية» لتقدم نفسها على أنها «حاجة مُلحة لمجموعة من الشباب الفلسطيني في إيجاد مساحة حقيقية للتعبير عن أنفسهم». هذه المساحة وجدتها «الرؤيا» التي يرأسها رامي ناصر الدين، في «التطبيع» من خلال إقناع بعض الشباب بأهمية التواصل مع «الجار» الإسرائيلي في سبيل إنجاح «السلام». «الرؤيا» التي حصلت على ترخيصها عام 2000 من وزارة الداخلية الفلسطينية تعمل «بالتعاون مع المؤسسات المحلية والخارجية على تقديم الخدمات المُنسجمة ودورها في المُجتمع بما يتلاءم والاحتياج الحقيقي للمواطن» في القدس والضفة الغربية. وعلى رأس هذه المؤسسات، «إجازة من الحرب» التي تموّل مشروع «كسر الحواجز» وهو أهم مشروع خارجي لـ«الرؤيا»، بالإضافة إلى الداعمين المحليين كـ«البنك الوطني»، أو من الخارج كـ«أكاديمية دويتشه فيله» (DW AKADEMIE) و«الجمعية الألمانية للتعاون الدولي» (GIZ) ومنظمات أميركية وكندية.
ترى «الرؤيا» أن مشاركة الشباب في هذه المخيمات هي «مشاركة وطنية ودفاع عن القضية الفلسطينية»، في حين أن المشاركين يتلقون المعلومات المُراد تثبيتها لديهم ويخلصون إلى نتيجة أنه يجب أن يتبادلوا مشاعر الحبّ مع الإسرائيلي. هذه النظرية تدعّمها «الرؤيا» بطريقة بحثية، من خلال نشر دراسة، في نهاية تنسيقها العلني لـ«كسر الحواجز» الذي امتد من 2002 إلى 2010، تقوّم فيها «اللقاءات وبرامج التبادل الشبابية الفلسطينية ــــ الإسرائيلية» التي تهدف إلى «دفع عملية السلام من خلال الحوار والتفاهم» التي جرت في ألمانيا. وفي التوصيات التي تعتمدها الدراسة، يتفق المشاركون على أن «اللقاءات جيدة ولكن يجب التحضير والتخطيط لها جيداً قبل المشاركة فيها».
هذه الدراسة من حيث الشكل واختيار العيّنات تُظهر، بطريقة حاسمة ومعممة، أن «الشباب الفلسطيني والمجتمع المدني الفلسطيني يؤيد من حيث المبدأ هذه اللقاءات والحوارات كأحد أشكال العمل الفلسطيني وطرح عدالة القضية الفلسطينية». إصرار المنسقين على هذه النتائج قابله اعتذار بعض المشاركين عن عدم الذهاب مرة ثانية بعد اكتشافهم أن هذه اللقاءات لا تمت للمقاومة بأي صلة.
«الرؤيا» لا تكتفي بإضفاء شرعية بحثية على برامج التطبيع وإخراج توصيات لإنجاحها، بل تتعداه بالتنكر خلف برامج ذات طابع وطني أو «غير خلافي» مثل برنامج حول القرى المهجرة وبرامج للمسرح وورشات تدريبية في الكثير من الميادين.