يحيى دبوق – الأخبار
العودة إلى تموز 2006، واسترجاع أحداث عملية أسر الجنديين الإسرائيليين، ليست عودة لاستذكار فعل ماضٍ جميل، كان قد أعاد في حينه تحريك شعور الجمهور العربي بالقدرة على استهداف إسرائيل وإيذائها، رغم جبروتها، بل لاستذكار فعل تأسيسي من أفعال المقاومة في لبنان، ما زالت تداعياته حيّة وجزءاً لا يتجزأ من حرب هي في صلب ميزان القوة الردعية مع العدو، بعد أن أفهمت إسرائيل محدودية القدرة وجدواها على استخدام القوة العسكرية مهما عظمت، في موازاة ترسيخ اعتقاد أعدائها بجدوى المقاومة، في زمن التخلي العربي عنها.
لا عجب في أن يشير الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز، الذي شغل في زمن الحرب منصب نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية، إلى جملة حقائق وتداعيات مرة جراء الفشل والإخفاق في حرب بات من الصعب جبرها مهما طال الزمن. ففي شهادته أمام لجنة التحقيق في فشل الجيش الإسرائيلي في حربه ضد حزب الله، يؤكد أنه «في نهاية الأمر، العالم وقف إلى جانبنا، لكن بصورة غير لطيفة. وقف إلى جانبنا لأننا ضعفاء وليس لأننا محقون. كان هناك شعور بأن إسرائيل ليست هي إسرائيل التي كانت عليه دائماً. لا حذر لديها ولا مفاجأة ولا إبداع. في الحرب، راوحنا مكاننا وخسرنا. نعم خسرنا، وخسرنا من قوة ردعنا، ونحن اليوم نعد أكثر ضعفاً مما كنا عليه».
عملية أسر الجنديين الإسرائيليين، في 12 تموز 2006، كانت إيفاءً لوعد وواجب، قطعهما حزب الله على نفسه بلسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، بتحرير أسرى لبنانيين في المعتقلات الإسرائيلية. الساعة التاسعة وخمس دقائق صباحاً، تنطلق مجموعات المقاومة على اختلاف اختصاصاتها، التي كانت منتشرة بانتظار لحظة بدء تنفيذ عملية «الوعد الصادق»، التسمية التي أطلقت على عملية الأسر، نحو السياج الحدودي شمالي مستوطنتي شتولا وزرعيت. كان من واجب كل مجموعات المقاومة، الهدوء والتسمر بلا حراك، إلى حين توجيه الضربات الأولى للدورية التي كانت على مهداف قوة الاقتحام، في بقعة واقعة ما بين نقطتي العلام 104 ــــ 105، في خلة وردة في خراج بلدة عيتا الشعب الحدودية.
في التاسعة إلا ربعاً، خرج أودي غولدفاسر (الأسير الأول) وطاقمه من اللواء الخامس، في دورية صباحية من نقطة انطلاقهم على بعد عشرات الكيلومترات. دورية كان يفترض أن تكون عادية على طول السياج الحدودي مع لبنان. آليتا «الهامر» اللتان كانتا محملتين بالجنود، وصلتا إلى النقطة التي كانت المقاومة قد زرعت فيها العبوة التي كان من المقرر أن تطلق صافرة انطلاق العملية وتحرك مجموعات الاقتحام لمسافة تزيد على مئة متر من الشريط الشائك، وصولاً إلى الآليات التي كانت تحترق جراء العبوة نفسها وإطلاق النار عليها من قبل مجموعات المساندة.
في التحقيقات العسكرية التي نشرت خلاصاتها لاحقاً، ورد إقرار من إحدى لجان التحقيق التي نظرت في الإخفاقات الاستخبارية للجيش الإسرائيلي عشية الحرب وضعف معلوماتها عن حزب الله، أن الهدوء على طول الجبهة كان خادعاً للاستخبارات العسكرية التي تكلف إسرائيل مليارات الدولارات سنوياً، إذ لم تلاحظ العشرات من مقاتلي النخبة لدى حزب الله، الذين كانوا منتشرين على الأرض في عدة مجموعات، منتظرين الدورية الإسرائيلية بصبر. لقد كان لديها هدف واحد، كان هذا كميناً كلاسيكياً لآلية كما في كراسات التدريب العسكرية. وكما يرد في خلاصة التحقيق، «صحيح أن الموقع ميت بالمصطلح العسكري، ولا يُرى من أي موقع مراقبة في القطاع، لكن ذلك لا يَغفِر للاستخبارات فشلها».
وكجزء من تفاصيل العملية، أطلق مدفع غير مرتد كان قد نُصب على تل في خراج بلدة عيتا الشعب، قذيفة مباشرة باتجاه الهامر الخلفي من الدورية. وفي الموازاة، أُطلقت من الموقع نفسه نيران الرشاشات والوسائل القتالية المتوسطة باتجاه الآليتين. لم يكن للجنود الثلاثة في «الهامر» الخلفي أي أمل، قتل اثنان في الآلية نفسها، فيما قتل الثالث بنيران الرشاشات لدى محاولته الفرار من الموقع. بعد ذلك بثوانٍ، أُطلقت على «الهامر» الأمامية قذيفتان صاروخيتان من مسافة أربعين متراً، كان من الصعب أن تخطئا من مسافة كهذه، وربما أيضاً من مسافة أبعد ربطاً بهوية القوة التي أطلقتها وتدريبها العالي. «الهامر» الثانية أصيبت، وتدهورت ببطء قرابة عشرين متراً إلى أن توقفت بجانب الطريق.
يرد في تحقيقات الجيش الإسرائيلي أن اثنين من أفراد طاقم «الهامر» الثانية فرّا وهما ينزفان ما بين الأشجار وبقيا متسمّرين في مكانهما طويلاً إلى انتهت العملية وانسحب حزب الله مع أسيريه، وهما غولدفاسر، قائد الدورية، والداد ريغف، السائق الذي كان إلى جانبه. كلاهما، كانا في الجهة التي تلقت قذيفة صاروخية من الآلية، حيث سارعت مجموعة الاقتحام التي كانت تكمن بين الشجيرات ما وراء الشريط الشائك، إلى فتح باب «الهامر» بصعوبة وسحبت الجنديين إلى آلية رباعية الدفع كانت تنتظر في الجانب الثاني من الحدود، بعد أن فجرت مجموعة إسناد أخرى السياج بواسطة عبوة ناسفة مكّنتها من نقل الجنديين بسهولة.
صباح يوم 12 تموز كان حافلاً وانشغالياً في تل أبيب، وتحديداً في مقرّ وزارة الأمن، مع بدء نقاش خاص حول الهجوم الفاشل لسلاح الجو الإسرائيلي، الذي نفذ في الليلة التي سبقت ضد مسؤولين رفيعي المستوى من حركة حماس، هما أحمد غندور ومحمد ضيف. في مكتب وزير الأمن العديم الخبرة عامير بيرتس، تحلق خمسة عشر مسؤولاً رفيع المستوى من المؤسسة الأمنية، بينهم رئيس الأركان دان حالوتس، ورئيس الشاباك يوفال ديسكين. جلس الجميع حول الطاولة، لكن مع بدء المناقشة بدأت «البايجرات» ترنّ. التقرير الأول كان عن قصف مكثف لقذائف هاون وصواريخ على طول الحدود اللبنانية. التقرير الثاني تحدث عن منزل في مستعمرة شتولا، انهار بعد تلقيه إصابة مباشرة. في التقرير الثالث، يرد أن موقع دفورنيت العسكري (جل العلام) قرب رأس الناقورة، تعرض لهجوم من قوات حزب الله، لكنّ الهجوم صُدَّ.
في المنشورات التي صدرت في أعقاب حرب عام 2006، يرد أن جميع من كان في الغرفة، اعتقد أن الأمر يتعلق «بردّ فعل من حزب الله على محاولة قتل قائدين كبيرين من حركة حماس». لكن بعد دقائق، أرسلت قصاصة ورقية إلى عامير بيرتس، تحمل معلومات عمّا يجري على الحدود الشمالية. أيضاً تلقى رئيس شعبة العمليات، غادي أيزنكوت، قصاصة ورق مماثلة، غادر في أعقابها الجلسة مسرعاً، ليعود من بعدها بخبر عملية الأسر: الأمر خطير، فقدنا الاتصال مع دورية على الحدود الشمالية.
في مقر وزارة الأمن، كانت الصورة مغايرة تماماً لما كان يجري في لبنان. كانت الصورة مختلفة جداً، ضبابية جداً وشاحبة، وتعبِّر عن إرباك. وفي «بئر» قيادة الأركان العامة تحت الأرض، كان جو العجز سائداً، إلى أن وصلت الأخبار المؤكدة: يوجد في المكان الذي فقد فيه الاتصال مع الدورية، جيبان عسكريان من نوع «هامر» محترقان. وفقاً للتقرير نفسه، قتل ثلاثة جنود وجرح اثنان، وجنديان آخران، كانا في الدورية، يعدّان مفقودين في هذه المرحلة.
أصبح واضحاً لدى الضباط، أن الأمر يتعلق بعملية أسر نفذها حزب الله. لكن كلما انقضت الدقائق، كلما انخفضت الآمال بتعقب الخاطفين والمخطوفين، فصدرت الأوامر بضرورة التحرك لعرقلة خط سير «الخاطفين» في الأراضي اللبنانية، الأمر الذي أدى إلى خسائر إسرائيلية إضافية. ومرّت الدقائق، في وزارة الأمن بلا إضافات، مع كثير من الارتباك، إلى أن عادت الأخبار ترد من جديد: دبابة «ميركافا» كانت قد أرسلت إلى داخل الأراضي اللبنانية، في إطار مطاردة عديمة الأمل للخاطفين، تعرضت لعبوة ضخمة على الطريق الموصل إلى قرية عيتا الشعب.
في الخلاصة، كانت نتيجة عملية الأسر، عملية «الوعد الصادق»، وما تبعها في اليوم نفسه من مواجهات و«مصيدة» الميركافا في عيتا الشعب، مقتل ثمانية جنود إسرائيليين، وعدد من الجرحى، وتمكن حزب الله من أسر جنديين.