فاتن الحاج – الأخبار
خلافاً للنظام الداخلي، غابت قضايا الجامعة اللبنانية في السنوات الأخيرة عن «أجندة» رابطة أساتذتها واقتصرت عناوين تحركاتها على المطالب المادية البحتة بمعزل على أي حيوية نقابية. الاضراب الأخير الذي عُلّق أمس لم يشذ عن هذه القاعدة، وترك تساؤلات لدى الرأي العام وأهل الجامعة لجهة توقيته ومبرراته. أما تبرير العودة إلى مقاعد الدراسة ابتداءً من اليوم فكان «الحفاظ على المصلحة العليا لطلابنا الذين وعدناهم بإنهاء عامهم الجامعي على أكمل وجه».
على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، لم يسلم إضراب أساتذة الجامعة اللبنانية من الهجوم والانتقادات. لم يكن مفهوماً للرأي العام ولكثيرين من أهل الجامعة، أساتذة وموظفين وطلاباً، لماذا أعلنت رابطة المتفرغين الإضراب في «الوقت الضائع» وفي هذا «التوقيت القاتل،» بالذات وما الذي تحقق من المطلب حتى علّقته أمس، ولِمَ لم تضرب مثلاًَ قبل 7 أشهر عندما صدر قانون سلسلة الرتب والرواتب واحتدم النقاش بشأن توحيد الصناديق الضامنة والمس بالتقديمات الصحية والاجتماعية لهذه الصناديق ومنها صندوق تعاضد الأساتذة الجامعيين، أو بالحد الأدنى لماذا لم تفعل ذلك حين أعيد التداول بالملف أثناء جلسات مناقشة مشروع قانون موازنة عام 2018 على غرار ما فعل القضاة؟ وهل غيّبت الرابطة نفسها فعلاً عن نتائج مداولات اللجان النيابية ولم تعلم أنه جرى فعلاً استثناء صندوق تعاضد أساتذتها من مادة توحيد الصناديق في قانون السلسلة؟
لم يكن مفهوماً للرأي العام وأهل الجامعة، كذلك، كيف اختفى الحديث فجأة عن حماية الصندوق لتتصدر المطالبة بالدرجات الثلاث وحدها أسوة بالقضاة المشهد النقابي. كما لم يكن مفهوماً لدى المتابعين أيضاً أن لا يرتبط مطلب مادي بحت ــــ بصرف النظر عن أحقيته ومدى ارتباطه بالموقع الوظيفي للأستاذ الجامعي ــــ بخطوات إصلاحية في الجامعة تبدأ بقيام الأساتذة بأبسط واجباتهم التعليمية والبحثية ومراقبة إنتاجيتهم، ولا تنتهي بامتناعهم عن مطالبة السياسيين بالتدخل لحماية حصتهم في الجامعة.
«التوافق» يشطب قضايا الجامعة
ببساطة، ما يحصل اليوم هو أن تكوين رابطة الأساتذة يبدأ «توافقياً» منذ انتخاب أعضاء مجلس المندوبين وصولاً إلى «تزكية» الهيئة التنفيذية و«بدعة» المداورة في رئاستها بين المسيحيين والمسلمين، وبالتالي تغليب «التفاهمات» بين القوى الحزبية والطائفية على أي حيوية نقابية. وحدها رابطة المتفرغين، بخلاف الروابط التعليمية والنقابات الأخرى، ضمّنت، بحسب الأستاذ المتقاعد فارس اشتي، نظامها الداخلي هدفين، يتعلق الأول بالمؤسسة والثاني بالأستاذ، فأورد المؤسسون للرابطة حرفياً غايتين لعملها هما:
ــــ تدعيم الجامعة اللبنانية وذلك بالسعي لرفع مستواها وتقوية دورها الطليعي في التعليم والبحث العلمي.
ــــ الدفاع عن مصلحة الأستاذ في الجامعة من جميع الوجوه ورفع مكانته مادياً ومعنوياً.
من هنا، يمكن أن نفهم، كما يقول اشتي، لماذا كان الأساتذة والنقابيون الأوائل أمثال حسن مشرفية وحسن ابراهيم وصادر يونس ومحمد المجذوب يعلنون الإضراب من أجل المطالبة بقانون للجامعة أو مبانٍ للكليات، ولماذا طالب النقابي نزار الزين بمجلس للجامعة في عز الحرب. في رأي اشتي، وقعت الرابطة في السنوات الأخيرة في تناقض بين شعبوبة العمل النقابي ونخبوبة المطالبة بإصلاح الجامعة، ولم تخض ــــ بحجة «تفرطع» مكوناتها الحزبية ــــ معارك جدية مبنية على برنامج يقدم تصوراً حقيقياً لتطوير الجامعة بكل المستويات.
أزمة الجامعة تحصل في سياقات التطور المنطقي للأحداث، كما قال الأستاذ المتقاعد شفيق شعيب، بعدما جرى تهميش القوى الديموقراطية وحصارها، وتوسل قوى السلطة بمختلف مكوناتها للقبض على مفاصل الجامعة وجعلها اطاراً للعمل الغنائمي، «وبالتالي من الطبيعي أن تتعطل الأولويات المتعلقة بتطوير المؤسسة من إنتاج الثقافة الوطنية والمعرفة العلمية وإطلاق الورشة البحثية لمصلحة هموم التوظيف والتقاسم الطائفي».
وهج العمل النقابي في الجامعة خفت، بحسب الرئيس السابق للرابطة شربل كفوري، عندما فُقد الانسجام داخل الأداة النقابية وبات أعضاؤها يُنتخبون بالتزكية، وبعدما جرى استهدافها من الداخل والخارج، لجهة إبعاد الرابطة عن حقوق الجامعة وحقوق الاساتذة، ووضع خريطة طريق لها وحدود لعملها، إن من المسؤولين في الجامعة أو من القوى السياسية. أما رئيسها «التوافقي»، والذي يخضع للمداورة التي كانت بمثابة الشوكة في قلب الرابطة، فيأتي، بحسب كفوري، مكبّلاً غير قادر على وضع خطة تحرك مطلبية بالتعاون مع مكوناتها.
«الإضراب فرض علينا»
يبدو رئيس الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة محمد صميلي مقتنعاً بأنّ «الإضراب فرض علينا فرضاً بعدما وضعنا في موقف حرج، فالتسليم بفصلنا عن باقي مكونات القطاع العام واستثنائنا لوحدنا من التقديمات التي شملت الجميع، والسكوت عن تراجع الموقع الاجتماعي التاريخي لأستاذ الجامعة اللبنانية، تعني الموافقة حتماً على ضرب الخصوصية ما يجعل العودة إلى الوراء أمراً صعباً». وينفي أن يكون المطلب مالياً، باعتبار أن التشريع متعلق بمهام الأستاذ ودوره.
يقر عضو الهيئة التنفيذية حسين رحّال بأن طرح أي قضية على طاولة الرابطة يجب أن يحظى بتوافق كل التيارات السياسية المكونة وإلاّ «صعبة تمرق، وعندما تتباين الآراء من الملفات لجهة التوافق على أسلوب العمل نلتزم بالحد الأدنى من التضامن النقابي»، مشيراً إلى أنّ الحقوق المكتسبة والمعيشية تدخل في هذه الخانة.
الأساتذة والشأن العام
داود نوفل، الأستاذ في كلية العلوم، الذي التزم القرار النقابي ووقف خلف رابطته لم يتردد في تسجيل ملاحظاته بشان التحرك قبل أن يحرّر نفسه منه ويعود إلى التدريس منذ الإثنين الماضي. وأبرز ما قاله: «لم نحاور الطلاب للوصول إلى خطة عمل موحدة تحفظ حقهم في الدراسة وحقنا في المطالب، الإضراب الناجح لا يعني يوم تعطيل، بل الحضور إلى الكليات والاعتصام داخلها وعقد جمعيات عمومية ومناقشة التوصيات. مشكلتنا كأساتذة أن الكثير منا، وخصوصاً الوصوليين الذي ينامون على أبواب السياسيين، أعطوا انطباعاً خاطئاً عن أساتذة الجامعة لدرجة أصبحت الدولة تتعاطى بخفة معنا ولا تستجيب لأي من مطالبنا. أعضاء الرابطة مسؤولون في أحزابهم الموجودة أصلاً في الحكومة، وإذا كانت القوى لا تلتزم بما يمثلون، فأمامهم حل وحيد لكي نقتنع بالإضراب هو إعلان استقالاتهم من مكاتبهم التربوية اعتراضاً على هذا التلكؤ، وعندها نكون مستعدين لأن نمشي وراءهم إلى آخر العام الدراسي».
تراجع الأستاذ الجامعي عن لعب دوره الحقيقي يعود، بحسب عليا جريج، أستاذة في الجامعة، إلى عدم استقلالية المؤسسة والتوظيف السياسي الطائفي الذي يحمي البعض الفاشل ويشلّ البعض المتقدم ويحاول إلغاء المحرّض على منظومة الفساد. برأيها، المطلب الذي يجب أن يترأس كل تحركات الأساتذة الجامعيين هو أن تكون الجامعة الوطنية بمراكز أبحاثها المتنوعة بديلاً عن وزارة تخطيط في الدولة، فالأستاذ الجامعي ليس مدرّساً ويجب أن يكون إلى جانب طلابه، المحرّك الأساسي لأي تغيير حقيقي بالمفاهيم والأفكار والحركة داخل المجتمع.
أجواء التململ من العمل النقابي عزته وفاء نون، مؤسسة مجموعة «من أجل جامعة وطنية مستقلة ومنتجة»، إلى سبب أساسي هو أنّ اساتذة الجامعة اللبنانية فصلوا أنفسهم عن الشأن العام والوعي بقضايا مجتمعهم وليس فقط بقضايا مؤسستهم فحسب، وغلّبوا مصالحهم الضيقة على مصلحة الجامعة. نون اشارت إلى أن جزءاً كبيراً من الجيل الجديد من الأساتذة لم يختر الجامعة انطلاقاً من شعور الانتماء لمؤسسة وطنية إنما استفاد من التوظيف السياسي وارتفاع أجر ساعة التعاقد مقابل غياب المحاسبة، وبالتالي لم يهتم هؤلاء بالإطلاع على تاريخ الجامعة ونضالات أهلها، كما لم يحظوا بنقابيين نقلوا له هذا الوعي من الشارع إلى داخل الجامعة كما فعل أساتذتنا الأوائل، لحدوث انفصام حقيقي بين الرابطة وقواعدها، إذ جرى الاعتماد في كل التحركات على تفويض أزلي من المندوبين للرابطة، ولم تنعقد جمعية عمومية واحدة. ثمة مشكلة في استخدام «عدة الشغل» بحسب تعبيرها، مشيرة إلى أن تهميش الطلاب عن قرار الإضراب كان خطأ لا يغتفر.