محمد وهبة – الأخبار
يحدّد باريس 4 «إصلاحات» مبهمة التزمها لبنان أمام الجهات المانحة، وأخضع نفسه لرقابة دولية. البرنامج الاستثماري للبنان يغفل أن الخلل الأساس في النموذج الاقتصادي اللبناني، وأن النموّ الاقتصادي لا ينتج من إنفاق استثماري فقط، وأن الإصلاحات المطروحة ستنقل الأعباء من كاهل الخزينة إلى كاهل الأُسر التي دفعت أصلاً ثمن الأزمة، فيما أُعفي المستفيدون. ها هو العفو يدقّ أبوابهم مجدداً!
لا شكّ في أن لمؤتمر «باريس 4» وقعاً قوياً في نفوس عدد كبير من الناخبين. في نظرتهم «البسيطة» لما حصل، أن بعض زعمائهم نجحوا في استنفار المجتمع الدولي لفرض وقف الفساد وكبح السرقة والهدر. «بروباغندا» السلطة أقوى من الحقائق. رُوّج أن لبنان يحتاج إلى تحفيز اقتصاده من خلال ضخّ استثمارات حكومية في البنية التحتية، وأنه يمكن تمويلها من الجهات الدولية وبواسطة الشراكة مع القطاع الخاص (الخصخصة)، بشرط قيام لبنان بإصلاحات يلتزمها، فيما تشرف هذه الجهات الدولية على تنفيذ المشاريع وصرف الأموال ومراقبة تطبيق الإصلاحات، ما يمنع الهدر والفساد.
وباستثناء ما يطاول موظفي القطاع العام والخصخصة، لم تحدّد ورقة الحكومة الإصلاحات التي ستقوم بها، بل اكتفت بتحديد الأهداف التي ستنفق عليها الأموال. بهذه البساطة، سينفق لبنان أكثر من 11 مليار دولار استدانها بعد «بيع» سيادته للشروط الدولية والقطاع الخاص.
تصحيح توصيف الأزمة
في هذا الإطار، يُعدّ مؤتمر «باريس 4» أول تحدٍّ لحزب الله الذي رفع الملف الاقتصادي ــ الاجتماعي إلى درجة عليا بين أولوياته. الملف يكاد يوازي المقاومة العسكرية للعدو الإسرائيلي التي لا تستمرّ إذا طُعنت في الظهر. رأس الحربة سيكون المركز الاستشاري للدراسات. مدير المركز عبد الحليم فضل الله، وضع قراءة أولية لمؤتمر «باريس 4» انطلاقاً من إعادة توصيف الأزمة في لبنان.
وفيما يخلص التوصيف الوارد في «باريس 4» إلى أن أزمة لبنان ماليّة تمويليّة، يرى فضل الله أن اقتصاد لبنان «بحاجة إلى كمية كبيرة من التمويل الخارجي ترتفع باطرّاد مع تزايد العجز في الميزان التجاري، فيجري ردم الهوّة الناتجة من هذا العجز عبر آليات عديدة، منها أسعار الفوائد والهندسات المالية والمؤتمرات».
ما حصل في «باريس 4»، هو أن ممثلي لبنان والمؤسسات الدولية، وخصوصاً البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تغاضوا عن حقيقة الأزمة ومنشأها الفعلي، وزعموا أن اقتصاد لبنان يحتاج إلى إصلاحات في المالية العامة واستثمارات في البنية التحتية فقط. هذا الفصل بين الاقتصاد والمديونية، واعتبارهما مشكلتين منفصلتين، يُعَدّ «فعلاً قاصراً»، وفق تعبير فضل الله. برأيه، لا يمكن النظر إلى المالية العامة إلا كجزء من الاقتصاد، وبهذا المعنى، لا يمكن فصل عجز الميزان التجاري عن عجز المالية العامة، «فمن الواضح أن حجم العجز التجاري (20 مليار دولار في 2017) ارتفع إلى مستويات أسطورية وبلغ 40% من الناتج الاجمالي، وبات يعطل مفاعيل الاستثمار في البنية التحتية».
مؤتمر للخصخصة بلا حلول
هكذا صارت الأدوات التقليدية للاقتصاد اللبناني، من تحريك لأسعار الفوائد، وهندسات مالية وسواها، غير قادرة على تغطية العجز. بنتيجتها، سجّل لبنان تدهوراً، إذ ارتفع الاستيراد وانخفضت الصادرات، وتضخّم سعر صرف الليرة الفعلي، تاركاً أثراً سلبياً على قدرة لبنان التصديرية وتنافسية السلع المنتجة محلياً… كل ذلك مهّد «اللجوء مجدداً إلى ركن إضافي من أدوات النموذج، أي مؤتمر الدعم الدولي»، يقول فضل الله.
الأسوأ من كل ذلك، أن المؤتمر لا يقدّم حلولاً، بل يثير استفسارات عديدة: «ما هي طبيعة القروض؟ بأي شروط؟ هل تأتي هذه الأموال لمعالجة أزمة اللاجئين في لبنان؟ أم ينظر إلى حاجات الاقتصاد الفعلية؟ لماذا تظهر أولويات المجلس الأعلى للخصخصة، وخصوصاً في ما يتعلق بالمشاريع المطروحة للشراكة مع القطاع الخاص مختلفة عن الأولويات الواردة في ورقة الحكومة؟».
هذه عيّنة من الأسئلة، أبرزها «الشراكة». فهذه الشراكة كما وردت في الورقة اللبنانية، هي وسيلة لتمويل 40% من قيمة المشاريع التي عرضت ضمن البرنامج الاستثماري، إلا أنه سرعان ما يتبيّن لفضل الله الآتي:
ــ هناك مشاريع بطبيعتها تتعارض مع خصائص الشراكة. على سبيل المثال، إن إنشاء طريق دولي لا يتناسب مع طبيعة الشراكة لجهة تسليمه للقطاع الخاص كاحتكار يريد البحث عن عائدات لاستثماره.
ــ هناك قطاعات لا يمكن إدخالها في الشراكة مع القطاع الخاص، لأن جدواها مرتبطة بالمصلحة الوطنية والسيادة الاقتصادية مثل مشاريع المياه. فهل سيكون للقطاع الخاص احتكار لمورد حيوي مائي مثل نهر أو سدّ؟ ما هي صلاحياته داخل المشروع؟ ما علاقته مع المستفيد؟
ــ الجدوى الاقتصادية والمالية لبعض المشاريع تمنع إدخالها في الشراكة. في صحيفة لو موند الفرنسية نُشر مقال عن 200 عقد شراكة مع القطاع الخاص، وتبيّن أن كلفة هذه المشاريع على الحكومة التي تشتري الخدمة جاءت أعلى بنسبة 14% مما لو قامت بها الحكومة. بأي كلفة اقتصادية واجتماعية سيقدم القطاع الخدمة؟
التمويل المحلّي متوافر: لماذا المؤتمر؟
ويتبدّى بوضوح أنه لدى لبنان قدرة تمويلية محليّة هائلة مصدرها السيولة الفائضة في القطاع المصرفي. «هناك مبلغ 53 مليار دولار موجود لدى مصرف لبنان، منه 28% أو 15 مليار دولار حرّة يمكن التصرّف فيها. هذا المبلغ هو جزء من الأزمة، ونحن ندفع كلفته في دعم تثبيت سعر صرف الليرة، رغم أنه يمكننا استعماله للحصول على التمويل والإبقاء على دعم الليرة في الوقت نفسه». إذاً، لدينا التشريعات القانونية للشراكة، ولدينا التمويل. لدينا كل ما يلزم، لماذا كل هذه (البرمة)» يسأل فضل الله.
هذه المعطيات تدفعنا إلى الاستنتاج أنه «لم يكن هناك داعٍ لمؤتمر باريس 4 ما دامت لدينا الإمكانات الداخلية. لو توافرت الإرادة للقيام بإنفاق استثماري في الاتجاه الصحيح، فلدينا القدرة على التمويل». لا يعترض فضل الله على ضرورة الإنفاق على البنية التحتية، بل يجب الربط بين الإنفاق والاثر الاقتصادي الناتج منه. ففي العقدين الأخيرين، كانت حصّة الإنفاق على البنية التحتية متدنية ولم تزد على 20 مليار دولار، ولم يظهر أثرها الفعلي «لأنه إنفاق خارج أي رؤية اقتصادية».
توافر التمويل والتشريعات وغياب الرؤية الاقتصادية يعني أن «الحلّ ليس خارجياً. فالمشكلة ذات منابع داخلية وحلّها داخلي، لكن يجب أن يكون الهدف واضحاً: إصلاح البنية التحتية، أو تصحيح ميزان المدفوعات، أو تقليص أزمة المالية العامة. العناصر الثلاثة مترابطة، لكن معالجة مشكلة كلّ منها تختلف عن الأخرى».
أساس المشكلة يكمن في عجز ميزان المدفوعات، وهو ناتج بجزئه الأكبر من عجز تاريخي وهائل في الميزان التجاري. هذه العقدة عولجت في مؤتمر «باريس 4» عبر الاستثمارات في البنية التحتيّة المموّلة خارجياً. الأدق أنها طريقة قد تحدث صدمة إيجابية قصيرة المدى، لكنها ليست علاجاً. فلا يمكن تصحيح ميزان المدفوعات إلا عبر «إنشاء بنية تحتية لاقتصاد منتج». في المقابل، إن الإنفاق الاستثماري الوارد في باريس 4 «يزيد النموّ ويزيد العجز المالي والتجاري، إلا أنه لا يزيد التصدير. ونوعية النمو الناتج منه تصيب قطاعات محدّدة بنحو مركّز».
الإصلاح من الخارج مرفوض
ومن المقولات التي رُوّج لها من خلال الإعداد لمؤتمر «باريس 4»، أن التزام لبنان للإصلاح أمام المجتمع الدولي يُجبر لبنان على تنفيذ الإصلاحات وعلى مكافحة الفساد ومنع الهدر بإشراف دولي. حيلة انطلت على العموم. فالمشكلة أن الذين نصّوا الإصلاحات المنوي التزامها، والذين تعهدوا بتنفيذها أمام المانحين، هم أنفسهم سياسيون ورجال أعمال بنوا ثرواتهم ونفوذهم من الفساد والهدر. موقف فضل الله في هذه المسألة ينطلق من «رفض فرض الإصلاحات من الخارج». يعتقد أن هذا الفرض «غير مقبول أولاً، وغير مفيد ثانياً، وغير ممكن ثالثاً، لأن الإصلاحات التي يُحكى عنها في الخارج هي غير الواقع. نعم يمكن أن تتلاقى إصلاحاتهم مع الأجندة الداخلية، لكن ما يُتَّفَق عليه في الداخل هو وحده يمشي. تجربة سلسلة الرتب والرواتب هي أكبر برهان، إذ تطلب إقرارها نقاشاً لخمس سنوات حول مصادر التمويل، وتوصلنا في النهاية إلى سلّة ضرائب كنا ضدّ بعضها، وكان هناك آخرون ضدّ بعضها الآخر. لو تركت مصادر تمويل السلسلة للخارج، لكانت زيادة ضريبة القيمة المضافة هي الاقتراح الأول. وللمناسبة، يتكرّر الحديث عن زيادة الـTVA اليوم أيضاً. زيادة ضريبة القيمة المضافة أو ضريبة استهلاك المحروقات ستؤديان إلى انفجار اجتماعي. المجتمع لم يتحمل زيادة 1% على ضريبة القيمة المضافة يوم أقرت السلسلة. الخيار هو داخلي، والتحدي الأكبر هو التوافق الداخلي على الإصلاحات».
كلفة الإصلاح: على من؟
لكن من يدفع كلفة الإصلاح بعد الاتفاق على الخيارات؟ يقول فضل الله: «هناك من يتحمل مسؤولية الأزمة المالية، وهناك من استفاد منها، وهناك من دفع أكلافها. هذا يعني أنه لا يمكن تحميل ثمن الحلّ لمن دفع الكلفة، بل لمن استفاد. نقطة على السطر. هذه ضابطة أساسية مثل ما حصل في ضريبة الفوائد وضريبة العقارات والأملاك البحرية. اقتصادياً، سيكون هذا الأمر مفيد». يخلص فضل الله إلى أن العلاج المطروح في باريس 4 هو «حلّ ضيق يزيد الكلفة على الأسر، كما في حالة الكهرباء التي ستنتقل كلفتها من القطاع العام إلى كاهل الاسر، والتيار سيتوافر بمساحة زمنية أوسع، إلا أنه لن يرفع القدرة التنافسية للصناعة اللبنانية. المؤتمر هو عبارة عن تصحيح مالي يستهدف طبقات معينة. هذا ليس مقبولاً. البلد لم يعد يتحمل. هناك قرارات جريئة وصعبة. المصارف ليست بمنأى عن هذه الأزمة».
نقل الأعباء إلى كاهل الأسر: العودة إلى 1990
يصرّ رئيس المركز الاستشاري للدراسات عبد الحليم فضل الله، على أن تكون الإصلاحات المالية المنوي القيام بها «محتواة داخل إصلاحات اقتصادية»، وإلا «فلن يكتب لها الاستدامة والاستمرار». في حال عدم الاحتواء، سيصبح المشهد على النحو الآتي: بدلاً من أن تستدين الحكومة، سيستدين المواطن. الهندسة المالية لن تكون بين مصرف لبنان والمصارف، وبين مصرف لبنان والدولة، بل ستكون لإعادة جدولة قروض المواطنين المشكوك في تحصيلها. خفض التحويلات من الخزينة لسدّ عجز الكهرباء ورفع التعرفة سيزيد العبء على الأسر ويزيد مديونيتها من دون زيادة مداخيلها. اليوم تُرحَّل مشكلة القطاع العام إلى جيوب الناس، ما سيعيدنا إلى عام 1990 عندما كانت الديون المشكوك في تحصيلها كبيرة بمعدل يفوق 15%. هذا الأمر يسهّل على الحكومة التعاطي مع مشكلة عدم السداد. عامة الشعب لا تملك نفوذ كبار الدائنين. ماذا نستفيد من هذا الأمر؟ مديونية المصارف تضغط على الدولة، وفي المقابل ننقل عبر مؤتمر باريس 4 مديونية القطاع المصرفي إلى الأسر!
ما يدل على مشكلتنا الحقيقية أن لدينا اقتصاداً عاطلاً من العمل لا ينتج شيئاً. حتى الخدمات التي كنا نفتخر بها لم تعد مجدية. قطاعنا المصرفي لم يعد منافساً، بل هو مدعوم من السياسات النقدية، ويستعمل أدوات السلطة من أجل الحصول على الأموال.
في رأي فضل الله، «ما يجب القيام به هو العمل على تكبير الدخل وزيادة الإنتاج الفعلي قبل أي شيء آخر. التحدي هو كيف نولِّد فرص العمل وكيف نحسّن مداخيل الأُسر. لا يمكن القيام بذلك من دون نموّ حقيقي إنتاجي يرفع تنافسية السلع والخدمات القابلة للتصدير».