نقولا ناصيف – الاخبار
بإقفال باب تسجيل اللوائح لم يتبقَ من انتخابات 2018 سوى الذهاب الى الطور ما قبل الاخير: الاقتراع. انتهت خيارات الترشح والتحالفات ومناورات التقلّب والغش هنا وهناك واعلان البرامج. من الآن انتقل الجميع الى الجانب الاستعراضي في الاستحقاق.
في الطور ما قبل الاخير من انتخابات 2018 طبع الصور وتوزيعها، استئجار الشاشات وما تبقى من لوحات على الطرق بأغلى تعرفة، رفع اللافتات والشعارات. اضف التعويل في الايام الـ40 المتبقية حتى الوصول الى 6 ايار ــ وهو الاساس ــ على تسعير النبرات والاستنفارين المذهبي والطائفي، الى الصراخ من اعلى سطوح السياسة لاجتذاب الكمّ الاكبر من الناخبين الى الصناديق.
بالوصول الى هذا الطور، تبدأ من الآن مراجعة النتائج السياسية الاولية، قبل الحسابية المتوخاة والمتوقعة والمؤجلة الى موعدها. تالياً استنتاج الطريقة التي أدارت بها الكتل الكبرى الرئيسية هذا الاستحقاق.
ومع ان انتخابات 2018 واجب دستوري واستفتاء شعبي انخرط الافرقاء جميعاً فيها، الا ان من الممكن تمييز الذين سارعوا اليها على انها احتفال عرض عضلات مالية، عن الذين وجدوا فيها مناسبة لقياس احجام احزابهم ونموها او ضمورها في الشارع، عن الذين يريدونها تصفية حسابات سياسية وشخصية داخل الطائفة ومن حولها، عن الذين يرغبون من خلالها في تأمين انتقال هادئ للزعامة وخلافة الحزب، عن الذين يعتقدون انها سلّم يصعدون منه الى رئاسة الجمهورية وإن لما تزل الولاية في اقل من ثلثها الاول، عن الذين تقيم فيهم الازدواجية اذ يؤلبون ناخبيهم على خصومهم السياسيين والانتخابيين والمذهبيين رافعين عنوان السيادة يوماً ثم يجلسون مع هؤلاء الى طاولة التقاسم تحت عنوان الاستقرار يوماً آخر.
تصحّ الفئات هذه على معظم الافرقاء الرئيسيين كالتيار الوطني الحرّ وحزب القوات اللبنانية وتيار المستقبل وحزب الكتائب والحزب التقدّمي الاشتراكي وتيار المردة، وعلى المرشحين الاثرياء والمتمولين واصحاب الوجاهة، كما على زعماء الاقضية والتيارات والقوى الاصغر حجماً، الا حزب الله وحليفه حركة امل.
في كل حملات هؤلاء الكثير الكثير من الدعاية السياسية والشخصية والمالية، والقليل القليل من السياسة. عند الثنائي الشيعي المعادلة مقلوبة تماماً.
من الواضح ان حزب الله يقارب الاستحقاق على انه اكثر من امتحان سياسي. تتداخل فيه روزنامة احداث المنطقة مع المرحلة المقبلة التي ينتظرها لبنان وتقف على بابه: حربا اليمن وسوريا الصاعدتان، تفاقم الاشتباكين الاميركي ــ الايراني والسعودي ــ الايراني.
لا تحتاج مقاربة حزب الله الحملة الانتخابية التي يقودها، ونشره لوائحه ولوائح حلفائه في كل دوائر الجغرافيا اللبنانية ــ ولم يسبق ان فعل ذلك في انتخابات 2005 و2009 على الاقل اذ اعتبر نفسه معنياً بالمقاعد الشيعية ــ الى جهد لتفسير توجيهه الرسالة: لا يستمد شرعية سلاحه من امر واقع مفروض فحسب، بل ايضاً من صناديق الاقتراع. ولا يقتصر التصويت له ولحلفائه على الناخبين الشيعة، بل يطاول طوائف اخرى وإن كان فيها زعماء واحزاب يناصبونه العداء. هو مغزى لائحته وحلفائه في دائرة صيدا ــ جزين، ودائرة كسروان ــ جبيل، ودائرة طرابلس ــ المنية ــ الضنية، والدائرة الثانية من بيروت، ودائرة البقاع الغربي ــ راشيا، ودائرة زحلة. دوائر لا تمثل شأن دوائر البقاع الشمالي والجنوب غالبية شيعية، او كدائرة بعبدا تأثيراً مقرّراً الى حدّ.
خارج الفلك الشيعي لا يكتفي حزب الله وحليفه حركة امل بإظهار دعم حلفائه للحصول على مقاعد، بل ايضاً قياس اعداد الناخبين الذين يجارون الحلفاء الداخلين في هذا الفلك ومقاومته وخيارات الداخلية والخارجية. بذلك يقترع له ولهم ناخبون مسيحيون وشيعة ودروز وسنّة، غطاءً اضافياً لشرعية الامر الواقع، لكن من داخل صناديق. لا تنقصه الاصوات من كل مكان. وقد تكون لائحته في كسروان ــ جبيل التي تتوخى الوصول الى حاصل انتخابي يوصل مرشحه حسين زعيتر الى المقعد الشيعي، اسطع دليل على انه يقود بنفسه معارك انتخابية خارج ارضه. في حوض مليء باسماك حليفة واخرى مناوئة له، ويفرض لائحته بمرشحين موارنة ليسوا حلفاءه الطبيعيين الذين يتحفظون عن مرشحه، فيما هو يصرّ عليه. وهو فحوى الاشارة.
حتى هذا الاستحقاق، ليس منذ عام 2005 فحسب، بل صعوداً الى اول انتخابات نيابية بعد اتفاق الطائف عام 1992، حُسِبَ المقعد الشيعي في جبيل على انه “صديق»، قريب الى حركة امل، او في احسن الاحوال تمون عليه، وبالذات الرئيس نبيه برّي. غير مستفز وغير صدامي. جزء من المجتمع الجبيلي وتقاليده المتداخلة مع الغالبية المارونية. قبل ذلك بكثير، على مرّ عقود الاربعينات حتى مطلع السبعينات، راحت تحلّ فيه اسماء اكثر تعبيراً عن المجتمع الجبيلي، واكثر التصاقاً بالكتلة الوطنية ــ زعيمة الدائرة ــ كأحمد الحسيني ثم علي الحسيني ثم احمد اسبر.
بيد ان القياس لم يعد كذلك في انتخابات 2018. المرشح الحالي، عضوٌ فاعل في حزب الله. مسؤول ملمّ بخريطة القضاء وطبيعة نزاعات قواه. في ظل كمّ لا يستهان به من نزاعات لم تُسوَّ على عقارات واملاك في القضاء بين السكان الموارنة والشيعة، يعكس الحزب، للمرة الاولى، اصراراً على مدّ نفوذه التنظيمي والسياسي والامني المباشر الى هذا الجزء من قضاء ذي غالبية مارونية. من الابواب العريضة في كسروان ــ جبيل التي لم يعد الدخول منها يمر عبر احزابها السياسية لاسيما منها التاريخية، يلج بلائحته الى عائلات تجهر بالتحالف معه، محسوبة التأثير وقادرة على منحه، مع اصوات الرزمة الشيعية المتماسكة والصلبة، حاصلاً انتخابياً لفوز مرشحه الشيعي، ما لم يكن اكثر. هو مغزى تحالف الحزب مع عائلات كسروانية وجبيلية مارونية محسوبة، من العاقورة وساحل جبيل وغزير وميروبا.
وسواء نُظر الى هذا التحوّل بعين سلبية او اخرى ايجابية، المعلوم من الطريقة التي يقارب حزب الله انتخابات 2018 انها مختلفة تماماً ومعدّة بعناية، في التحضير لها كما في الخروج منها. وهو ما يصح على الدوائر التي يسعه مدّ نشاطه اليها بفاعلية لا يستهان بها. لم يعد يرضيه تكرار لازمة انه “جزء لا يتجزأ من المجتمع اللبناني»، و«ممثل في البرلمان والحكومة»، و«الجناح السياسي فيه يختلف عن الجناح العسكري»، وصولاً الى اتهامه بأنه “منظمة ارهابية». بات انتشاره السياسي المباشر، ومن خلاله حلفائه ــ وهو ايضاً مباشر ــ يُقيمه في صلب الشرعية الوطنية للنظام والدولة، وفي صلب الاستقرارين السياسي والامني.
ذلك ما يقوله الرئيس سعد الحريري عندما لا يخاطب ناخبيه السنّة في بيروت وطرابلس وعكار بتشنج لا حاجة به اليه.