كتب منير الربيع في "المدن": حال النكران التي يعيشها المسؤولون اللبنانيون في تعاطيهم مع أزمات البلد، ليست وليدة تعاملهم مع ثورة 17 تشرين فقط. وليست نتاج أزمة مالية واقتصادية يلجأون إلى الالتفاف عليها بضخهم كماً هائلاً من الأكاذيب والإشاعات.
ثنائيات وملتحقون
التركيبة اللبنانية بكليتها، هي عملية تعايش مع النكران الذي تغلِّفه عبارة الوفاق أو التوافق الوطني، الذي لم يتحقق يوماً بخلاف كل السرديات الشائعة. فصيغة لا غالب ولا مغلوب التي يتغنّى اللبنانيون بها، لم تكن قائمة في يوم من الأيام. ومنذ الاستقلال كانت تحالفات ثنائية أو ثلاثية تدير لبنان، ويلتحق بها الراغبون في الالتحاق والتبعية.
في العام 1943 كانت ثنائية بشارة الخوري ورياض الصلح. وانكسرت هذه الثنائية بمعادلة "كمال جنبلاط وكميل شمعون". وهذه بدورها كسرتها في ما بعد معادلة الشهابية المتحالفة مع الجنبلاطية والكتائبية. وفي عشايا الحرب الأهلية وفي أثنائها، بدأ نشوء الأحلاف الواسعة: المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية في مواجهة الجبهة اللبنانية.
حروب أحلاف وتصفيات
وانقسمت بيروت في الحرب إلى شرقية وغربية. تكريساً لمنطق الثنائيات. وبعد ما سُمّي انتفاضة 6 شباط 1984، دخل الحزب الاشتراكي الدرزي النواة والقيادة، وحركة أمل الشيعية، في حرب تصفية المرابطون في الشارع السني. فتسيد الاشتراكيون وأمل بيروت الغربية، ثم اقتتلوا في شوارعها، حتى عودة الجيش السوري إليها في العام 1987. وهذا، قبل ذهابهما إلى عقد ما عُرف بـ"الاتفاق الثلاثي" مع القوات اللبنانية بقيادة إيلي حبيقة، وبرعاية سورية.
في مواجهة هذا الثلاثي ورعايته السورية، نشأت ثنائية مسيحية قوامها قائد الجيش ميشال عون وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع، بعد عزل حبيقة عن قيادتها وطرده من المناطق المسيحية وإقامته في زحلة برعاية المخابرات السورية.
طائف وتفاهم وتسوية
في حقبة ما بعد الطائف أدار البلد تحالف ثلاثي (الحريري وأمل نبيه بري ووليد جنبلاط، برعاية مخابراتية سورية) وبمشاركة بعض المستلحقين. وكانت محطة الفصل في العام 2005، بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري. تسلم السلطة ثلاثي المستقبل والاشتراكي والقوات اللبنانية. وعارض حزب الله وحلفاؤه هذا الثلاثي، ومنعه من الاستقرار في الحكم، وبدأ التأسيس إلى ما سُمِّي التفاهم، وهو ثنائية جديدة بين حزب الله والتيار العوني، وتُوّج باتفاق 6 شباط 2006 في كنيسة مار مخايل.
حكومات الوحدة الوطنية التي تشكّلت بعد ذلك لم تكن حقيقية. بل حكومات للصراع وتقاسم المغانم، تحت شعار التوازن والتوافق، وصولاً إلى مرحلة كسر هذا التوازن، في تسوية 2016. وعلى الرغم من أن طرفي تلك التسوية هما سعد الحريري وميشال عون، فقد حكمت لبنان بعدها ثلاثية، والأحرى ثنائية عون وحزب الله، التي استلحق بها سعد الحريري، الذي خرج من المشهد أثناء انتفاضة 17 تشرين.
الثنائي المنتصر
اليوم يقف التحالف الثنائي بين حزب الله والتيار العوني أمام محطة مفصلية، في ظل قراءات ومراجعات متعددة للمرحلة السابقة. فالتحالف الثنائي هذا نجح في السيطرة على السلطة، والوصول إلى رئاسة الجمهورية، وتشكيل الحكومة التي يريدها، ومن لون واحد. لكن خلافات جذرية وجوهرية لا تزال قائمة بين هذا الثنائي حول الرؤية إلى البلد. وهذا موضوع نقاشات ومباحثات تدور داخل كل طرف منهما. فالتحالف الذي بنى أمجاده بوصوله إلى السلطة، بدعاية الإصلاح ومحاربة الفساد والمقاومة والتحرير، قد انتهت صلاحيتها على الأرجح. ذلك أن البلد انفجر في وجه هذا الثنائي عملياً. وهو كان يتذرع بفساد قوى أخرى يطلق عليها "قوى الطائف"، هي اليوم خارج الحكومة. والمشاكل لا تزال تعتري العلاقة بين الحليفين، خصوصاً في ما يتعلق بالسياسات المالية والاقتصادية. الاختلاف لا يقتصر على التيار العوني وحزب الله، بل ينسحب أيضاً بين الحزب وحركة أمل. وهذا سينعكس أكثر في الطروحات المالية والإصلاحية للخروج من الأزمة في المرحلة المقبلة.
أزمة كبرى
يواجه التحالف الحاكم اليوم أزمة كبرى في ما يتعلق بإدارة البلاد، فتتجاذبه وجهات نظر متضاربة. قد لا يكون هناك خلاف كبير على القضايا الخارجية، ولكن في الداخل الخلافات كبيرة. ويجد التحالف نفسه أمام تحدّ كبير. وإذا لم يتوصل إلى تفاهم على كيفية إدارة الملفات الداخلية، فسيكون أركان التحالف أمام مشكلة حقيقية مع جمهورهم. وتحتاج الأزمة الراهنة إلى معالجات جذرية وحقيقية، ولا بد من اتخاذ قرارات مؤلمة. وفي حال عدم الذهاب إلى مثل هذه القرارات، فإن الوضع سينفجر، وقد ينفجر التحالف نفسه.
لم يعد من مجال للإبقاء على العلاقة في صيغتها التي كانت عليه بين حزب الله والتيار العوني. لقد صار ضرورياً تطويرها للحفاظ عليها وفق ما يقول مسؤولون عونيون. يعتبرون أنه لا بد من توحيد الرؤى مع حزب الله، خصوصاً في ما يتعلق بمستقبل النظام والدولة. ولا بد من إيجاد إجابات عن أسئلة ما بعد انتهاء اتفاق الطائف، وكيفية تركيب بنية جديدة للنظام.
حزب الله يبدو أكثر هدوءاً في التعاطي مع الوقائع. أما أركان التيار العوني فمتحمسون ومستعجلون لاستغلال الفرصة التي يعتبرونها مواتية للإطاحة بتركيبة النظام التي أرسيت في العام 1989. يعتبرون أن الوقت قد حان للانتقام والثأر من تلك اللحظة، تحت شعار "استعادة الصلاحيات" (إحياء الهيمنة المارونية السياسية).