كتب المحامي وهيب ططر لـ"لبنان 24" مقالاً حمل عنوان "مصطفى كاخية "ميمو" شهيد حيّ"، جاء فيه:
مصطفى المعروف بـ"ميمو" رجل تعرفت عليه بحكم أنّه "ابن مدينتي"، يعمل على شاطئ مدينة الميناء، كبحّار، وكصيـّاد، ويهتم بمراكب أبناء المدينة المركونة في مرفأ الصيادين ومن بينها مركبي الصغير.
عندما كنت اصطحب أولادي وأصدقائي إلى جزر الميناء في الصيف، كان يهتم بالجميع، ويرعاهم ويراقبهم ويحضر لنا الطعام، فنمضي أوقاتا نشعر وكأننا أمراء، بفضل حفاوته واهتمامه بنا! شـاب فقير جداً، وفي ذات الوقت غنيّ بابتسامته و بنخوته، وبوجهه الحامي تجاه كل من يرتاد هذا المرفأ.
تزوّج "ميمو" كمعظم الصيّادين باكراً، ورزقه الله أربعة أولاد؛ صبي عمره 16 سنة دهسته سيارة هذا الصيف على كورنيش المدينة ففارق الحياة، إضافة إلى ابنه البكر عبدالرحمن (21 سنة) وابنته راما (14 سنة) اللذين انهار عليهما سقف غرفة نومهما فجر اليوم، وبنت صغيرة عمرها (3 سنوات) كانت نائمة مع والديها في غرفة ثانية عندما سقط سقف الغرفة على أخويها، فنجت والحمد لله. خلال أشهر معدودة فقد صديقنا البحّار ثلثي أولاده! فيا لها من كارثة!
عندما سمعت بالخبر في الصباح الباكر، توجهت برفقة صديقي القبطان عادل اللون، إلى منزله نبحث عن "ميمو" بين حشود الناس، وجدته، غمرته، فرأيته متماسك، يا له من جبّار، ضيفته سيجارة فأخذها مني، ودعانا للدخول إلى منزله المتساقط، فدخلنا خلفه ورأينا الكارثة.. بالنسبة لي الكارثة كانت رؤية أين كان يعيش هذا الرجل و في أيّ ظروف، ورغم ذلك كان دائماً مبتسماً!
ما هذا الإختبار؟ كيف يقدر "ميمو" على تقبل تلك المصيبة، بالصبر وحبس النفس، بالرضا وبالشكر وبقبوله حكم الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}.
أستطيع اليوم أن أجزم بأنّ الصّدمَة الأولى هي الأصعب، ومن بعدها يعتاد الإنسان على الصبر، وصدمة "ميمو" الأولى كانت يوم ولادته في ذات البيت الذي اغتال سقفه ولديه، حيث ولد فقيراً، فأصبح منذ ذلك الحين قوياً، صنديداً، جبّاراً، وفقره كان مدعاة قوّته.
أتساءل بماذا يفكر صديقنا الآن؟ في الإنجاب مرّةً أخرى؛ للتعويض عن أولاده؟ إشغال وقته في العمل ولو حتى ليَنسى مصيبته؟ الإحتفاظ بحاجات أولاده الخاصة في خزانةٍ انهارت تحت السقف الملعون؟ هل يفكّر بإنهاء حياته؟ هل يقول لنفسه: لقد تجاوزت الخمسين، وقد عشت حياتي كلّها في المنحدر، ورحل من أحب فلماذا أبقى هنا؟ أم أنّه سيستمر ويكابر في مواجهة وتخطي عاصفة الحياة المستمرة، وأمواجها الشاهقة المستدامة؟
نعم، أنا أكيد من أنّ هذا ما سيفعله "ميمو" القويّ، نكاية بكل مَنْ تآمر عليه وعلى أمثاله، سيصمد البحّار بوجه الظلم وسيبني له بيتاً ثانياً وثالثاً، وسيثبت الله سبحانه وتعالى عزيمته إلى الأبد. لا الدمع يكفكف الآم الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس يخفف لوعة الفقدان، ولا توقف الذاكرة عند محطات الحياة يجلب شيئاً من الإفادة.
للموت جلال أيّها الصديق البحـّار، لنا ولك من بعدهم انتظار في محطات قد تطول وقد تقصر، وقد ترهق وقد تصفو، وقد تُضحك وقد تبكي... حتى يأتينا سقف آخر ملعون بلا هيبة أو تردد، يختارنا واحداً اثر آخر... "لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".
هذا الصباح تلعثمت حيث أحاط بي من كلّ الجهات، كل شيء يوحي بالموت، حتى الكلمات رحلت عنّي فأستعيدها من قاع التردّد لتبقي على خيط الحياة الممتد.
مصطفى المعروف بـ"ميمو" رجل تعرفت عليه بحكم أنّه "ابن مدينتي"، يعمل على شاطئ مدينة الميناء، كبحّار، وكصيـّاد، ويهتم بمراكب أبناء المدينة المركونة في مرفأ الصيادين ومن بينها مركبي الصغير.
عندما كنت اصطحب أولادي وأصدقائي إلى جزر الميناء في الصيف، كان يهتم بالجميع، ويرعاهم ويراقبهم ويحضر لنا الطعام، فنمضي أوقاتا نشعر وكأننا أمراء، بفضل حفاوته واهتمامه بنا! شـاب فقير جداً، وفي ذات الوقت غنيّ بابتسامته و بنخوته، وبوجهه الحامي تجاه كل من يرتاد هذا المرفأ.
تزوّج "ميمو" كمعظم الصيّادين باكراً، ورزقه الله أربعة أولاد؛ صبي عمره 16 سنة دهسته سيارة هذا الصيف على كورنيش المدينة ففارق الحياة، إضافة إلى ابنه البكر عبدالرحمن (21 سنة) وابنته راما (14 سنة) اللذين انهار عليهما سقف غرفة نومهما فجر اليوم، وبنت صغيرة عمرها (3 سنوات) كانت نائمة مع والديها في غرفة ثانية عندما سقط سقف الغرفة على أخويها، فنجت والحمد لله. خلال أشهر معدودة فقد صديقنا البحّار ثلثي أولاده! فيا لها من كارثة!
عندما سمعت بالخبر في الصباح الباكر، توجهت برفقة صديقي القبطان عادل اللون، إلى منزله نبحث عن "ميمو" بين حشود الناس، وجدته، غمرته، فرأيته متماسك، يا له من جبّار، ضيفته سيجارة فأخذها مني، ودعانا للدخول إلى منزله المتساقط، فدخلنا خلفه ورأينا الكارثة.. بالنسبة لي الكارثة كانت رؤية أين كان يعيش هذا الرجل و في أيّ ظروف، ورغم ذلك كان دائماً مبتسماً!
ما هذا الإختبار؟ كيف يقدر "ميمو" على تقبل تلك المصيبة، بالصبر وحبس النفس، بالرضا وبالشكر وبقبوله حكم الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}.
أستطيع اليوم أن أجزم بأنّ الصّدمَة الأولى هي الأصعب، ومن بعدها يعتاد الإنسان على الصبر، وصدمة "ميمو" الأولى كانت يوم ولادته في ذات البيت الذي اغتال سقفه ولديه، حيث ولد فقيراً، فأصبح منذ ذلك الحين قوياً، صنديداً، جبّاراً، وفقره كان مدعاة قوّته.
أتساءل بماذا يفكر صديقنا الآن؟ في الإنجاب مرّةً أخرى؛ للتعويض عن أولاده؟ إشغال وقته في العمل ولو حتى ليَنسى مصيبته؟ الإحتفاظ بحاجات أولاده الخاصة في خزانةٍ انهارت تحت السقف الملعون؟ هل يفكّر بإنهاء حياته؟ هل يقول لنفسه: لقد تجاوزت الخمسين، وقد عشت حياتي كلّها في المنحدر، ورحل من أحب فلماذا أبقى هنا؟ أم أنّه سيستمر ويكابر في مواجهة وتخطي عاصفة الحياة المستمرة، وأمواجها الشاهقة المستدامة؟
نعم، أنا أكيد من أنّ هذا ما سيفعله "ميمو" القويّ، نكاية بكل مَنْ تآمر عليه وعلى أمثاله، سيصمد البحّار بوجه الظلم وسيبني له بيتاً ثانياً وثالثاً، وسيثبت الله سبحانه وتعالى عزيمته إلى الأبد. لا الدمع يكفكف الآم الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس يخفف لوعة الفقدان، ولا توقف الذاكرة عند محطات الحياة يجلب شيئاً من الإفادة.
للموت جلال أيّها الصديق البحـّار، لنا ولك من بعدهم انتظار في محطات قد تطول وقد تقصر، وقد ترهق وقد تصفو، وقد تُضحك وقد تبكي... حتى يأتينا سقف آخر ملعون بلا هيبة أو تردد، يختارنا واحداً اثر آخر... "لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".
هذا الصباح تلعثمت حيث أحاط بي من كلّ الجهات، كل شيء يوحي بالموت، حتى الكلمات رحلت عنّي فأستعيدها من قاع التردّد لتبقي على خيط الحياة الممتد.