أكّد متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، خلال قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس، أنه "من المؤسف أننا نتفاجأ كل فترة، في بلدنا الذي يدعي أنه بلد الحرية والتسامح والتعايش، بقول أو بفعل يضعه كثيرون في مجال حرية الرأي والتعبير، لكنه في الحقيقة لا يمثل سوى التعدي على الحرية أو الكرامة أو المعتقد".
وقال: "لقد أصبح سهلا في عصر التواصل الإجتماعي الرائج في أيامنا أن يشتم الإنسان أخاه أو يلفق التهم والأضاليل، ويروج الشائعات، أو أن يسخر بعضهم من معتقدات البعض أو من أنبيائهم وقديسيهم، ويعتبرون فعلهم من ضمن الحرية التي هي حق لهم. لكنهم يتجاهلون عن قصد أو عن غير قصد أن حدود حريتهم تقف عند حدود حرية الآخرين وكرامتهم وإيمانهم. في السنوات الأخيرة، لمع نجم المهرجانات الصيفية، التي يدفع اللبناني كثيرا، أو قليلا، ثمن البطاقة لحضورها، وهو لا ينفك يتذمر في كل لحظة من عدم توافر سعر ربطة الخبز في جيبه. لا يفهمن أحد من هذا الكلام أننا ضد الفن أو الثقافة أو السياحة. نحن ضد الفن الهابط، الذي يتخفى خلف قناع حرية التعبير لكي يبث في عقول شبابنا سما، مثلما فعلت الأفعى مع آدم وحواء قديما عندما شجعتهما على عصيان الرب".
أضاف: "الشيطان، يا أحبة، منذ سقط بسبب كبريائه، لا يغمض له جفن، مفتكرا بطرق يجتذب بها إليه كل أبناء الله المخلوقين على صورته ومثاله. مع ظهور الفنون الجميلة، كالموسيقى والرسم والأدب والمسرح وغيرها، إنجذب الناس إلى هذا النوع من الجمال، لكن الشيطان أدخل لمسته بواسطة كبرياء بعض الفنانين الذين استخدمهم كمصيدة. لقد حدث هذا الأمر في زمن آباء الكنيسة القديسين على مثال باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم وأفرام السرياني الذين حذروا المؤمنين من ارتياد المسارح لأن الهراطقة تسلطوا عليها وأخذوا يبثون أفكارهم من خلالها. إن الجمال هبة من الله، والتعبير الجميل نعمة من نعمه، والإنسان المثقف يقدر الفن والجمال لكن النفس الصافية الجميلة تتقيأ عند سماعها أو رؤيتها الشر والتطاول والقباحة التي تتجلى في بعض ما يسمى فنا في أيامنا. فنحن نرى بعض الشباب ينجرفون، من دون تفكير، وراء أمور لا يمكننا وضعها إلا في خانة الشر المتربص بالإنسان. ونرى الدفاع المستميت هنا وهناك عن حرية الفكر والتعبير والتصرف، ولو تخطت الحدود لتمس كرامة الآخر أو حرية تفكيره ومعتقده. آخر هذه "الصرعات" الاستهتار بالمقدسات والاستهزاء بها كمثل الصورة التي سرت بين الناس وقد استبدلت فيها والدة الإله الحاملة الطفل يسوع كما في الأيقونة البيزنطية، بصورة مغنية، أو كمثل أنواع من الأغاني المشجعة على أشكال من الانحراف، يؤديها شباب اختاروا ميلا معينا في حياتهم".
وتابع: "بدءا، إذا كنا ننادي بحرية الرأي والتعبير، لماذا نمنعها عن الآخرين وننعتهم بالتدين والتزمت؟ لماذا يحق لشخص لا يمت إلى المسيح بصلة، أن يهين المقدسات، ولا يحق لمكرمي هذه المقدسات أن يفتحوا فمهم، وإلا يصبحون من قامعي الحريات؟ هل هذه هي الحرية الحقيقية؟ هل يجرؤ أحد، من أي دين كان، على ذكر اسم امرأة موقرة ومكرمة أو اسم أي رجل يتقي الله ويحبه من أجل رضاه، في أي تمثيلية أو أغنية من النوع الذي عايناه؟ من منكم يسكت عن إهانة أمه أو أبيه؟ من منكم يقبل أن يسخر أحدهم من إبنته أو أخته؟ إن العذراء مريم بالنسبة لنا هي والدة الإله ووالدتنا لأننا أبناء الله بالتبني. العذراء مريم هي أمي ويسوع المسيح هو ربي، ونحن لا نسمح بإهانة أمنا ولا نسكت عن أي مس بها أو بيسوع المسيح ربنا وإلهنا. أما من اختار الإلحاد أو الكفر طريقا فهو حر باختياره إنما لا حرية له عندما يمس جوهر إيماننا".
وأردف عوده: "هنا، أود لفت النظر إلى أمر نعاني منه نحن المسيحيين، لأننا نعرف جميعنا أن إخوتنا المسلمين لا يتساهلون مع من يمس معتقداتهم، وخير دليل على ذلك ما حصل في 5 شباط 2006 عندما ثارت ثائرة بعضهم بسبب كاريكاتور يسيء إلى النبي محمد ظهر في الدانمارك، وتلقينا نحن نتائجه، إذ أحرقت سفارة الدانمارك في الأشرفية ورشقت الكنائس بالحجارة وأنزل الصليب عن الباب الرئيسي لمطرانيتنا. هذا لا يعني أننا نرحب بأي تطاول على إيمان إخوتنا ونبيهم، بل نرفضه وندينه، ولا نشجع السخرية من معتقداتهم ومعتقداتنا، كذلك لا نشجع العنف وتحميل الآخرين مسؤولية ما لم يقترفوه. لكننا أيضا نتمنى أن يحترم الآخرون حريتنا وإيماننا ومقدساتنا وأن يرفضوا المساس بها كما نرفض نحن المساس بمقدساتهم. فوالدة الإله بالنسبة إلينا هي أم الإله المتجسد، ونحن نكرمها ونرفض أي إهانة لقدسيتها. كذلك فإن الثالوث القدوس هو أساس إيماننا ولا نسمح لأحد بإقحامه في أغانيه وما يدعي أنه فن. ولمن يتهمنا بالحد من حريته نقول إننا نحترم حرية الجميع، لكن على الآخرين أن يعوا أن حريتهم لا تكون بالتعدي على الآخرين بل باحترامهم. عندما يحترم واحدنا الآخر، وعندما نغرس محبة الله في نفوسنا ونفوس أولادنا، حينئذ لن نخاف على الأجيال المقبلة من انعدام الأخلاق والمحبة أو من تكاثر الحروب والنزاعات والحقد والتطرف والتخوين وما شابه. الحرية مسؤولية وليست تفلتا من كل قيد وانفلاشا على حساب الآخرين وتجربة للابتعاد عن الله".
وختم: "دعائي، يا أحبة، أن نذكر دائما دعوة المسيح لمرتا عندما قال لها: "مرتا مرتا، إنك تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد" (لو 10: 41-42). حاجتنا الواحدة هي خلاص أنفسنا، وهذا لا يتم إلا بسماع كلمة الرب والعمل بها مثلما فعلت مريم أخت مرتا التي "اختارت النصيب الصالح الذي لا ينزع منها" (لو 10: 42). دعوتنا اليوم هي أن نعرف مواهبنا، وندرك أنها آتية من العلاء، وواجبنا أن نثمرها ونجعل منها طريقا إلى تمجيد المعطي، بحسب ما نقول في القداس الإلهي: "التي لك، مما لك، نقدمها لك". بارككم الله، وبارك مواهبكم، وبارك عقولكم، حتى تعرفوا كيف تستغلوا هذه المواهب في خلاص نفوسكم والآخرين، آمين".
أخبار متعلقة :