صحيح أن موعد لقاء رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي كان متفقًا عليه قبل زيارتي المملكة العربية السعودية والمملكة الهاشمية الأردنية. ولكن توقيته جاء في محله، وصودف أنه تزامن مع زيارتين قام بهما لبكركي كل من الرئيس السابق ميشال عون ورئيس "التيار الوطني الحر" السيد جبران باسيل.
الذين أطلعوا على ما بعض دار من أحاديث في "خلوة بكركي" بين ميقاتي والراعي يؤكدّون أن التفاهم بين الرجلين كان "سيد الموقف"، حيث حرص رئيس الحكومة على طمأنة بطريرك الموارنة إلى أن فكرة حلوله مكان أحد في المطلق لم تخطر على باله ولو للحظة واحدة في حياته العامة والخاصة. فكم بالحري عندما يتعلق الأمر برئاسة الجمهورية، وهو الذي يعرف أكثر من غيره ماذا يعني أن تكون البلاد من دون رئيس للجمهورية، خصوصًا ما لهذا الموقع المتقدّم من أهمية وطنية أولًا ومسيحية ثانيًا، وهو الرئيس المسيحي الوحيد من بين ملوك ورؤساء وأمراء دول الجامعة العربية. فلا يحقّ لأحد أن يحّل محّله، لا مجلس الوزراء ولا غيره، حتى ولو أن الدستور يتحدّث عن أن صلاحيات رئيس الجمهورية تؤول إلى الحكومة في حال خلو سدّة الرئاسة لأي سبب كان.
فإذا كانت الحكومة مضطرّة للاجتماع لتصريف أعمال الناس عند الضرورة والحاجة فهذا لا يعني أنها بذلك تأخذ دور رئيس الجمهورية، وهو دور أناطه به الدستور وحده حصريًا، وهو الوحيد بين الرؤساء الثلاثة، الذي يقسم اليمين الدستورية من أجل الحفاظ على السيادة والدستور. وأي كلام آخر غير هذا الكلام هو لتمويه الحقائق ولتغطية السماوات بالقبوات، أو بتعبير آخر أكثر وضوحًا هو لإخفاء الدور التعطيلي في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، الذي يقوم به "الغيارى" على صلاحيات الرئيس. فالحريص على موقع رئاسة الجمهورية عليه أن يقوم بواجبه الدستوري والوطني ويشارك الآخرين في تأمين نصاب جلسة الانتخاب، ولا يكون بالتالي مساهمًا أول في عملية تعطيل الانتخاب وإبقاء البلاد في حال من الفراغ القاتل.
ولو كنت مكان الرئيس ميقاتي لكنت سألت البطريرك الراعي ماذا كان سيفعل لو كان هو رئيسًا للحكومة، هل كان ترك المرضى يموتون على أبواب المستشفيات، أم كان سيدعو الحكومة إلى الانعقاد لإيجاد حلّ لهذه المسألة الصحية الخطيرة؟
جواب البطريرك الافتراضي سيكون حتمًا ما يؤّمن به وما يبشرّ به وما يدعو إليه كل يوم. فأعمال الرحمة تأتي قبل أي عمل آخر، وهي فوق كل الاعتبارات الأخرى، حتى ولو لم تكن شكلية.
فأمور الناس لا يمكن الاستهتار بها. لها الأولوية ولها الأفضلية. ولو اقتضى الأمر أن يعقد أكثر من جلسة للحكومة لتسيير أمور الناس لفعلها الرئيس ميقاتي، ليس من منطلق تحدّي أحد، بل من منطلق التخفيف قدر المستطاع من معاناة الناس.
هذا ما أبلغه رئيس الحكومة للبطريرك الماروني بكل صراحة وواقعية. وكذلك فعل في لقائه التشاوري مع الوزراء، لأن التخفيف من الآم الناس في هذه الظروف الصعبة يبقى أهمّ من أي اعتبار آخر. ومن يريد أن "يقوص" على الحكومة بالسياسة فهذا شأنه، لأن ذلك لن يثنيها ورئيسها عن قيامهما بواجبهما الوطني والإنساني تجاه الناس، الذين "يأكلهم" الهمّ مع كل لقمة يغمسونها في صحن يكاد لا يكفي لإطعام طفل رضيع.